مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: حكاية مسجد كان مُحتكَرًا

قبل 30 عامًا..أنشأ رجل من قريتنا مسجدًا كبيرًا على نفقته الشخصية. موقع المسجد المتاخم للأراضي الزراعية جعله مقصدًا قريبًا لأداء صلاة الجمعة؛ باعتبارها “قدس الأقداس” عند معظم الفلاحين الذين يعتبرون إهمالها خطيئة لا تُغتفَر.
ورغم بساطة الرجل وجهله بالقراءة والكتابة وعدم إتقانه فاتحة الكتاب إلا أنه أصرَّ إصرارًا غريبًا حتى وفاته على رفع الأذان والإمامة والخطابة بنفسه، رافضًا أن يقترب أحد -مهما كان مبلغ علمه وفهمه وحفظه للقرآن الكريم- من القِبلة أو المنبر أو الميكرفون، مُرددًا في زهو وخيلاء ريفيين: ” الجامع ده بتاعي..أعمل فيه اللي أنا عاوزه..واللي مش عاجبه يغور في داهية”!
في إحدى المرات التي صليتُ في مسجده الجمعة، أصرَّ “صاحب المسجد” على الصعود للمنبر لإلقاء الخطبة بعدما رفع بنفسه الأذان، فحمد الله وأثنى عليه بطريقته المبهمة، ثم تاه الكلام منه فلم يجد مفرًا إلا أن قال: “أقم الصلاة عشان تشوفوا شغلكم ومصالحكم”، ونزل من المنبر، وأقام بنفسه الصلاة وتولى الإمامة، وبعدما فرغ من ركعتي الجمعة لم يجد خلفه من المصلين إلا نفرًا قليلين كنتُ أحدَهم؛ بعدما هُرع الباقون إلى مساجد وزوايا مجاورة؛ خوفًا من أن تكون صلاتهم ناقصة دون خطبة حقيقية وشعائر كاملة.
كان من بين الحضور يومئذ مدرس بجامعة الأزهر الشريف، وآخر بمعهد القراءات، وثالث مشروع داعية متميز وواعد، أكرمه الله لاحقًا وحشره في زُمرة الدعاة النابهين الذين نحسبهم على خير، ولكن محتكر المسجد كان يُصعِّر خده لهم جميعًا، وينظر إليهم في نفور!
كنا نضحك تارة، ونستغرب تارة أخرى من تصرفات الرجل وعفويته وتلقائيته، كما كنا نندهش من رفضه الاستجابة لنصائح الناصحين بأن يترك الأذان والإمامة والخطابة لمن يتقتها ويقدر عليها؛ لا سيما أن ذلك لا ينقص أبدًا من قدره شيئًا.
كان “صاحب المسجد” يُكابر في إصرار غريب، بل كان يُلوِّح أحيانًا بأنه قد يجد نفسه مضطرًا إلى اتخاذ قرار نهائي بإغلاقه بالضبة والمفتاح.
بقي أمر المسجد على هذه الحال، حتى وافى الأجلُ صاحبَه -رحمه الله تعالى وغفر له وتجاوز عنه- واسترد المسجد من بعده حريته ومكانته التي يستحقها، وتكفَّل به روادُه، وسخَّر الله له من يُنفق عليه بسخاء، وصار مسجدًا عامرًا مبهجًا يتعاقب عليه الأئمة الحافظون والخطباء المفوهون، وتُقام به الأمسيات والندوات، لا سيما أنه لم يتم تأميمه بعد، ولم يتم إدخاله ضمن “وسيَّة” وزارة الأوقاف.
المسجد لم يعد مكانًا آمنًا ومريحًا وطيبًا لأداء الصلاة فحسب، ولكن أصبح مدعومًا بخدمات ومزايا أخرى، وتحول بمرور الوقت إلى أيقونة مساجد القرية على كثرتهم وتعددهم..وفي ذلك عبرة وآية وعظة لمن أراد..

زر الذهاب إلى الأعلى