راندا الهادي تكتب: النداهة!!
النداهة… أسطورةٌ تربينا عليها، خاصة مَن ترجع أصولُه إلى الريف المصري، سواء في شماله أو جنوبه، هذه الأسطورة التي ظلت تسكن عقولنا الصغيرة لسنواتٍ طوال، مُحذرةً إيانا من السير في الأماكن المظلمة أو بجوار القنوات المائية ليلا، بل هناك مَن عاشت في ذهنه حتى سنواته المتأخرة، ولكن ما يجذبني هنا لاستدعاء تلك الأسطورة وإعادتِها للحياة مرة أخرى، هو تشابهُ تأثيرِها المُخدر والمُوجِّه للهلاك مع ما نتعرض له يوميًّا من محتوى عبرَ وسائل التواصل، ننساق وراءه دون إدراكٍ أو وعيٍ لعواقبه الوخيمة.
وكما كانت النداهةُ تجذب الرجالَ _ كما تقول الأسطورة _ بصوتها الرقيق العذب عندما تنادي على أسمائهم، فإن نداهة هذا العصر تجذبُ الرجالَ والسيدات وقبلَهم الأطفالَ بالعديد من الوسائل، منها عددُ (اللايكات والشير والدولارات) التي تنهمر عليهم عبر تزايد عدد متابعي ما يقدمونه من محتوى!!
وهنا، تُصاب بالجنون والهلاوس النفسية وضياع البصيرة مثل الفلاحين الذين ندهتهم النداهة وأصابهم الجنون وماتوا أو ساروا على غير هدى مُحدِّثين النداهة بأنهم قادمون لها لا محالة!!
لا تتعجبوا فهذا ما يحدث بالفعل، وقد تصدقون ما أقول إذا ما رأيتم المحتوى الذي يقدمه البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليربحوا (اللايكات) ويرفعوا (الريتش) الخاص بهم، فهناك من يجلس تحت ماء الدش فقط ليراه من يراه، وهناك من تحكي كيف كادت لحماتها؟! وماذا تفعل بها؟! وهناك من يستغل حياته الشخصية وحياةَ أبنائه ليعرضها طوال الأربع والعشرين ساعة بكل تفاصيلها، ومن تأكل بشكل مبالغ فيه يثير الاشمئزاز والرغبة في إفراغ معدتك على الفور، والكثير والكثير من الذين يتفننون كل دقيقة في مفاجأتك بمحتويات تنتهك كل القيم والأعراف والأخلاقيات التي تربينا عليها، سواء طلبًا للمال أو إشباعًا للرغبة الدفينة بأنه مشهور وهناك من ينتظر ما يقدمه!!
هذه هي النداهة في ثوبها الجديد، التي وللأسف لن تموت كما ماتت أسطورةُ النداهة بدخول الكهرباء إلى القرى والنجوع، بل تحتاج لوقفةٍ منّا جميعًا بأن نبحث عن شيء آخر نضعه في أيدينا وأيدي أبنائنا كبديل عن الهواتف المحمولة والـ (تابلت)، شيء يُنمي العقل ولا يمحوه، يُثري الخيالَ ولا يقتله، يعلو بأخلاقيات البشر لا ينحدر بها.
بل نحن لا نحتاج البديل، لأن مجرد التوقف عن متابعة تلك النداهة الكامنة في جيوبنا، واستغلال كنز الوقت المهدر في مشاهدة تلك التفاهات لهو كافٍ بالنهوض بهذا الجيل والأجيال القادمة وحث من يقدمون المحتوى على تقديم ما يتفق وديننا وأخلاقنا وقيم المجتمع، أو على أقل تقدير (ما يفيد).
كن فاعلًا ولا تكن أبدًا مفعولًا به، فأنت من تقود حياتك وحياة أسرتك الصغيرة، وأنت المسئول كما ذكر نبينا المصطفى _ صلى الله عليه وسلم _ وقال لنا: (كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته).