محمد أمين المصري يكتب : زمن بوتين الذي توقف ..” أنا الزمان والزمان أنا”
لم تنته بعد تداعيات انقلاب يفجيني بريجوجين قائد مجموعة “فاجنر” الروسية على معلمه ورئيسه فلاديمير بوتين، ومنها أن الرئيس الروسي لم يتعرض إلى انقلاب من قبل فاجنر أو غيرها، وإنما هو نفسه الذي جعل العالم وزعماء أوروبا والولايات المتحدة يتخيلون أنه تعرض لهزيمة نكراء من أقرب المعاونين له وهو قائد فاجنر الذي يوصف بأنه “طباخ بوتين”، فكيف ينقلب الطباخ على سيده؟.
ومن أهم تداعيات ما تعرضت له روسيا مؤخرا على يد قائد فاجنر ما تحدثت عنه شخصيات مخابراتية أمريكية، مشيرة الى أن الرئيس الروسي استخدم ما يسمى “عمليات الراية المزيفة” عندما اعلن تصديه لانقلاب وتمرد يفجيني بريجوجين ، وأن الحقيقة التي لم يصدقها الغرب وأمريكا حتى وقتنا الراهن، أن بوتين خدعهم جميعا اذ جعلهم يشعرون أنه أصبح في موقف ضعيف ومن السهل علي أوكرانيا هزيمة القوات الروسية في الوقت الراهن.
طبيعي أن يتأني المرء عندما يفكر في الكتابة عن مثل هذه المسائل الحساسة حساسة وأنه يتعين التعامل معها بحذر وموضوعية. وفيما يتعلق بنجاح بوتين في خداع أوروبا والعالم عبر عمليات الراية المزيفة، فإن ذلك يعتمد على قدرته كرئيس دولة مثل روسيا وعمله السابق في واحد من أقوى أجهزة المخابرات في العالم (كي جي بي) أيام الاتحاد السوفيتي السابق، في تشكيل الرأي العام داخل بلاده ( روسيا) والرأي الدولي بهدف توجيه الانتباه إلى نقطة يريدها هو نفسه، على أن يكون متأكدا من حصد التأثير الفعلي والنجاح في الخداع الذي يعتمد على العديد من العوامل والسياق السياسي والاقتصادي والثقافي.
خبرات بوتين في هذا المجال قوية ويمكن القول إنه حصد خبرات متراكمة من خلال عمله المخابراتي ثم رئيسا لروسيا لفترة طويلة، وتمكن عبر هذه الخبرات من توجيه عمليات الراية المزيفة في الوقت المناسب مستخدما عناصر أساسية، منها أن خصومه يريدون تصديق تعرضه لهزيمة ما سواء داخلية أي انقلاب فاجنر ضده، أو نجاح القوات الأوكرانية من إحراز نجاحات حتى لو ضئيلة في هجومها المضاد ضد روسيا.
كما ان بوتين يدرك تماما أن الإعلام الغربي والأمريكي شغوف بالمستجدات والتحليلات السياسية والعسكرية، فكان سهلا على الرئيس الروسي رمي “الطعم” لهذا لوسائل الإعلام الغربية والأمريكية لنشر رسائل مضللة أو معلومات زائفة على مدار الساعة وبصورة أرهقت الجمهور الغربي وجعلته مشتتا، أيهما يصدق ما يبثه الروس من أخبار وتقارير، أم ما ينشره الإعلام الغربي.
والرئيس الروسي الذي يتردد أنه يكره عالم التواصل الاجتماعي، استغل بصورة ممتازة تطورت وسائل الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، واستطاع إعلامه نشر رسائل متضاربة ما بين حقيقية ومزيفة بهدف الترويج لأجندته وتشويه الحقائق لدى الغرب، ومن ثم إحداث فجوة في المجتمعات الغربية وجعله متوترا ومضطربا.
واستغل بوتين مسألة ضعف قدرة الجمهور الغربي على التحقق من كل ما ينشره الإعلام الدولي ليمارس عمليات الراية المزيفة، وهو مدرك تماما أن الإعلام الغربي ليس لديه القدرة هو الآخر على التحليل السليم للأحداث، وإنما هذا الإعلام يخضع للتوجيه من قبل قادة الدول التي تدعي حربة التعبير، فكان من الصعب على الجميع التصدي لعمليات الراية المزيفة.
ولعل من تقنيات المستخدمين لعمليات الراية المزيفة المزيفة للتلاعب النفسي بالجمهور وإقناعهم بالمعلومات المزيفة، الاعتماد على التكرار، عبر استمرار نشر رسالة مزيفة بشكل واسع وزيادة قبولها، وفي هذه الحالة يكون الجمهور الذي يتعرض لهذه الرسالة المتكررة أكثر عرضة للتأثر بها وقبولها دون التحقق من صحتها. كما يلجأ أصحاب عمليات الراية المزيفة الى بالتلاعب بالإحصائيات لإقناع الجمهور بشيء معين أو لتشويه صورة شخص محدد، لكي يحصد مستقبلا ما يبتغيه وهو التأثير على جمهوره الداخلي – الجمهور الروسي – وإقناعه بأن روسيا بدون بوتين ستتعرض لفوضى عارمة، وقد نجح الرئيس الروسي في تصدير هذا التصور بالفعل، حتى أصبح الدخل الروسي متخوفا من تكرار إحداث فوضى ثورة 1917 البلشفية التى أطاحت بدولة القياصرة وجاءت بالشيوعيين آنذاك. ونجح بوتين في التلاعب بالعواطف للتأثير على جمهوره وإقناعهم برسالته المزيفة. واستغل الخوف من الفوضى في نيل تعاطف شعبه معه حتى ولو كلفتهم الحرب الأوكرانية خسائر بمليارات الدولارات والأرواح وتراجع النمو الاقتصادي. ولا ننسى هنا أن الإعلام الروسي ساهم بقدر كبير في عمليات الراية المزيفة، وتمكن من التأثير في الجمهور الروسي لكي يقف بجانب الرئيس بوتين وتأييد قراراته وعدم تصديق روايات الغرب عن مجريات الحرب.
إذن..نجح بوتين في استغلال أحداث الانقلاب الصوري لفاجنر، وتمكن من إثارة الخوف لإقناع الروس بأنهم على وشك تهديد خطير، وبالتالي يبدأ القادة في اتخاذ إجراءات معينة كانوا يخشون اتخاذها قبل إثارة الخوف لدي الشعوب من عدو معين.
لعل التساؤل التالي يؤكد ما سبق من شق نظري في تناول عمليات الراية المزيفة: كيف يلتقي بوتين بقائد فاجنر يفيجيني بريجوجين بعد خمسة أيام فقط من أحداث التمرد أو انقلاب فاجنر؟. اللقاء تم تحديدا في التاسع والعشرين من يونيو الماضي أي بعد خمسة أيام فقط من الانقلاب المزعوم الذي لم يدم طويلا. والمثير للدهشة أن الغرب لم يسأل نفسه: لماذا يضطر بوتين الاجتماع مع مرتكب حادث التمرد او الانقلاب أو الخيانة ضده وضد روسيا ثلاث ساعات.
وهنا نعود إلى نظرية عمليات الراية المزيفة، فبوتين جعل الغرب يعتقد نجاح التمرد أو الانقلاب ثم يخرج الغرب بتقدير مفاده أن الرئيس الروسي في موقف ضعيف قد لا يؤهله الى قيادة الكرملين وأنه قد يعاني من فقدان الأشخاص الذين يثق فيهم ويكمل بهم ومعهم حرب أوكرانيا. وترك بوتين الإعلام الغربي يردد تقارير وهمية عن ضعفه، حتى فوجئ الغرب وأمريكا معا ان قوات فاجنر على وشك الذهاب إلى بولندا كذراع خفية للجيش الروسي لاسترجاع ما وصفه بوتين نفسه بأن لروسيا اراض تم إهداؤها الى بولندا من قبل الرئيس السوفيتي الراحل جوزيف ستالين، وأنه حان الوقت لروسيا استرجاع أراضيها..وهي نفس الرسالة التي صدرها بوتين للعالم قبل احتلال شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة للحدود الأوكرانية حتي قبل عام 2014.
ويبدو أن الرئيس الروسي كان أسعد إنسان على وجه الأرض بسبب ترديد قادة أوروبا وأمريكا وإعلامهم بأن تمرد فاجنر كان أمرا عظيما وانه أصاب نظام بوتين بالضعف، وهنا أحسن الرئيس الروسي استغلال عمليات الراية المزيفة، بعدما اقتنع خبراء الغرب واستراتيجيه ومحلليه بأن انقلاب بريجوجين كان حقيقيا وهو في واقع الأمر مجرد عملية خداع متفق عليها بين الرئيس وطباخه.
والتساؤل الأهم: هل كان بمقدور قوات فاجنر البالغ عددها بضعة ألاف من الرجال مواجهة جيش عرمرم قوامه نحو مليون جندي مدججين بكافة أنواع الأسلحة؟..الإجابة بالطبع لا، ولكن الرئيس الأمريكي جو بايدن وقع فريسة لعمليات الراية المزيفة عندما أعلن أن بوتين ضعيف تماما بعد الانقلاب. وعندما أعلن بايدن رأيه هذا لم يكن يعلم أن يفجيني بريجوجين يتنزه في حدائق بطرسبرج. فكيف لقائد انقلاب أو تمرد تم ترحيله إلى بيلاروس حقنا للدماء أن يعد لبلده بعد أيام قليلة من التمرد والاتفاق على أن تكون بيلاروس ملجأ نهائيا له؟.
إجمالا..نجح بوتين في خداع الغرب بخطته الجهنمية، والأهم أنه تمكن من السيطرة على مشاعر وعواطف الشعب الروسي الذي سيؤيده رئيسا في الانتخابات المقبلة، وهو الأمر الأهم لدى الرئيس الروسي، فهو مستمر في الحرب حتى لو طالت، ولكنه أيضا مستمر في الحكم وهو الهدف، وما دون ذلك هراء..فالزمن توقف لدى الرئيس الروسي ولم يعد يحسب الوقت بالأيام والشهور والسنين، فقط تخطى هذه العقلية من زمن، ويتبنى المنطق القائل “أنا الزمان.. والزمان أنا”، فإذا جاء أجله فلا أحد بعده، فالكرسي صُنع له وحده.