حازم البهواشي يكتب: تطوير الإعلام

حين عُيِّنْتُ في الإذاعة المصرية منتصفَ عام 2003م، كان لدينا في الاستوديو بعضُ ورقات هي البرنامج اليومي ( Daily program )، الذي يوضح لنا الموادَّ التي ستُذاع وتوقيتاتِ إذاعتها عبر موجاتنا، فالبداية مثلًا في الثامنة بالقرآن الكريم، بعدها نشرة الأخبار، وعقب موجز الثامنة والنصف عناوين الصحف المحلية والعربية والعالمية،… إلخ، وكان السؤال الذي تبادر إلى أذهاننا: هذا البرنامج اليومي جاء شبيهًا لمثيلٍ له، فماذا عن أول برنامج يومي في أول أيام افتتاح الإذاعة المصرية 31 مايو عام 1934م؟! كانت إجابة أساتذتنا: لقد بحث المؤسسون ونظروا فيما يُحبه الناس ويُقبلون عليه، ليذيعوه ويقدموه لهم، كان المصريون يعشقون صوت الشيخ “محمد رفعت” (9 مايو 1882م _ 9 مايو 1950م)، ويَطربون لصوت “أم كلثوم” (31 ديسمبر 1898م _ 3 فبراير 1975م)، ويُحبون “صالح عبد الحي” (18 يونيو 1889م /أو/ 16 أغسطس 1896م _ 3 مايو 1962م) و “محمد عبد الوهاب” ( 13 مارس 1898م _ 4 مايو 1991م)، ويَملك عقولَهم من الشعراء الأمير “أحمد شوقي” (16 أكتوبر 1868م _ 14 أكتوبر 1932م)، والتفكيرُ المنطقي والحالُ هذه، أن يتضمن برنامجُ الإذاعة ما يميل إليه المستمعون، لتكونَ الإذاعةُ مُعبرةً عنهم، وصوتًا لهم، فبدأ البث في الخامسة والنصف مساءً بآياتٍ من الذكر الحكيم بصوت الشيخ “محمد رفعت”، بعدها انطلق صوتُ الآنسة “أم كلثوم” _ التى تقاضت (25 جنيهًا) نظيرَ إحيائها للافتتاح _!! وغنى أيضًا فى ذلك اليوم المطرب “صالح عبد الحي”، ثم “محمد عبد الوهاب”، وشمل برنامجُ الإذاعة “حسين شوقي” أفندي الذى ألقى قصيدةً لأمير الشعراء “أحمد شوقي” بك (من المعروف أن أمير الشعراء لم يكن يُلقِي شعرَه بنفسه)، وألقى الشاعر “علي بك الجارم” (25 ديسمبر 1881م _ 20 مارس 1949م) بصوته قصيدةً تحيةً لملك البلاد “فؤاد الأول” ملك مصر والسودان، ومن أبياتها قولُه:
غَفْرًا (فُؤَادُ) أَبا (الفارُوقِ) إن عَجَزَتْ // عَنْ عَدِّ آلائِكَ الغرَّاءِ أوْزاني
هَذِي الإذاعةُ يا مولايَ قد نَطَقَتْ // بما بَذَلْتَ بإفْصاحٍ وتِبْيانِ
كما أُذيعتْ فِقْرَاتٌ للمونولوجست الأول الفنان “محمد عبدالقدوس” (3 أغسطس 1888م _ 15 يناير 1969م)، والموسيقي “مدحت عاصم” (20 فبراير 1909م _ 4 فبراير 1989م) و أمير الكمان المنحدر من أصولٍ سورية “سامي الشوا”( 1885م /أو/ 1889م _ 1965م)، ومع المذيع الشهير “أحمد سالم” (20 فبراير 1910م _ 10 سبتمبر 1949م) صاحب أول “هنا القاهرة”، كان هناك المذيع “محمد فتحي” (27 يناير 1910م _ 12 فبراير 1986م) الذى عُرِفَ بلقب “كروان الإذاعة”.
ما علاقةُ هذه الحكاية بتطوير الإعلام؟! العلاقة وثيقة، فحتى يكونَ الإعلامُ مؤثرًا لا بد أن يكونَ إعلامَ الناس، صوتَ الناس، يبحث عما يحبونه، يعبر عنهم، يرتقي بذائقتهم، يحمل همومهم، يكون حلقةَ وصلٍ بين المواطن والمسؤول، ليُبدِيَ ما خفي عن المسؤولين من أحوال المواطنين.
هذا الإعلامُ هو الذي يحوز ثقةَ المواطن، بوجوهٍ محبوبة، تتحدث بصدقٍ وحُريةٍ مسؤولة، وإذا حاز الإعلامُ ثقةَ المواطن، سيتقبل منه رسالتَه؛ فإنه لم يرَ منه إلا الخير، ولم يعرف عنه غيرَ الصدق، وما رآه يومًا إلا باحثًا عن الحقيقة، مدافعًا عنها، منحازًا للمصلحة العامة.
أما إذا تصدرَ المشهدَ أصحابُ الوجوه المكروهة الذين يَلْوُونَ عُنُقَ الحقيقة، ويَشتغلون بالتمثيل لا بالإعلام، ولا يَعرفون عن الصدق إلا حروفَ كلماتِه، فهذا يعني أن الحاجزَ سيظلُّ قائمًا بين المواطن ووسائل إعلامه؛ فالتواصلُ الحقيقي مقطوع، وساعاتُ الهواء والكلام لا قيمةَ لها!! تطويرُ الإعلام لا يحتاج إلى لجانٍ قدرَ حاجتِه إلى إرادةٍ صادقة، وبُعْدٍ عن المحسوبيات، وإعلاءٍ لمصلحة الوطن والمواطن، تطويرُ الإعلام تُلخصه ثلاثُ كلمات: (الصدق _ الحرية _ المسؤولية).










