مقالات الرأى

محمد محمود عيسى يكتب : القومية العربية والمتغيرات الإقليمية والدولية الحديثة

0:00

أثار استخدام الرئيس عبد الفتاح السيسي لوصف ” رئيس الجمهورية المصرية ” بدلا من الوصف التقليدي ” رئيس جمهورية مصر العربية ” في اتفاقية السلام الدولية بخصوص إنهاء الحرب في غزة حالة من الجدل والتساؤل حول هذا التوصيف الجديد للجمهورية المصرية وهل هو إعلان عن تخلي مصر عن قوميتها وانفصالها عن عروبتها والسؤال الأهم هل مصطلحات القومية العربية والعروبة ما زالت تصلح وتناسب المتغيرات الإقليمية والدولية الحديثة أم أن هذه المصطلحات فقدت صلاحيتها وأصبحت غير مناسبة للمتغيرات والأحداث الإقليمية والدولية وما كان يصلح بالأمس ليس من الضروري أن يكون صالحا لليوم بحكم الزمن وعوامل التغيير في الفكر والمفاهيم والواقع السياسي

إذا أردنا أن نلقي نظرة تاريخية سريعة على ارتباط مصر بمفهوم العروبة فدعني أخذك إلى فقرة من مقال الأستاذ عمر فاروق يقول فيها:

” تاريخيًا، ارتبطت مصر منذ خمسينيات القرن الماضي بمفهوم “العروبة” كمنظور سياسي تبناه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي جعل من القاهرة مركزًا للحركة القومية ومشروعًا للوحدة العربية، لكن عمليا انتهت هذه المرحلة الزمنية بكل ما تحمله من رمزية تاريخية، لا سيما عقب تحولات ما بعد حرب 1967، ثم تبددت واقعيًا بعد توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” عام 1979، التي رسّخت مبدأ الهوية الوطنية المصرية المستقلة عن المشاريع فوق القومية، وفي ظل المتغيرات الأنية على الساحة الدولية والإقليمية، فإن مفهوم القومية العربية تفكك تدريجيا ولم يعد يمثل ثابتا في إطار تغيير موازين القوى وتحالفاتها الإقليمية والعربية، المنطوية على المصلحة الذاتية.” ( 1)

وإضافة إلى ما كتبه الأستاذ عمر فاروق حول ارتباط مصر والتزامها بالعروبة والقومية العربية فمن المؤكد أن التحولات التي حدثت طوال السنوات الماضية ومنذ إطلاق مفهوم ومعنى العروبة والقومية العربية وحتى الآن تثبت وتؤكد أن هذا المفهوم لم يعد صالحا أو مناسبا للمتغيرات والأحداث التي يمر بها العالم والمنطقة العربية والتي على الرغم من اختلاف وتنوع وقسوة هذه الأحداث ما بين نكسة أو هزيمة 67 ومرورا بتوقيع مصر على اتفاقية السلام ومرورا بكافة الأحداث التي تعرضت لها مصر وخاصة من 2011 وحتى الآن توكد على أن مفهوم العروبة والقومية العربية لم يتم استخدامه وتفعيله بما يتوافق مع الأحلام والطموحات التي كان من المفترض أن تتأتى من طرحه وتسويقه على مستوى الشعوب والحكومات العربية حتى وإن كانت هناك بعض التدخلات التي حدثت من بعض الدول العربية مثل مشاركة بعض القوات العربية في حرب أكتوبر أو حتى تقديم القروض الاقتصادية للدولة المصرية على مدى الفترات الزمنية الماضية أو حتى في السنوات الأخيرة فمن المؤكد أن الطرف الآخر لم تكن العروبة والقومية العربية هي المحرك الأساسي والوحيد للمشاركة أو لتقديم هذه القروض المالية بل يكاد يكون البعض من العرب ونتيجة لخلافات سياسية وتاريخية مع مصر ومع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لا يتمنى سماع أو استخدام وصف القومية العربية خاصة وأن هذا الوصف ارتبط عندهم بالزعامة والريادة والقيادة وعمق التأثير مما كرس عندهم الشعور بعدم مساواة مصر أو الوصول لقامتها وقوتها وقيادتها وتأثيرها وخلق نوعا من الصراع النفسي الخفي والإصرار على انتزاع القيادة والزعامة والقوة والتأثير وتجلى هذا الصراع وأعلن عن نفسه عندما أعلنت مصر عن الجمهورية الجديدة والتي كان من أبرز ملامحها إعادة صياغة الدور والتأثير والقوة المصرية بكافة أشكالها ومعانيها داخليا وخارجيا مما يستوجب تقديم نموذج لدولة مصرية نجاحها يكشف فشل الآخرين وقوتها تظهر ضعف الآخرين وتقدمها يؤكد تأخر الآخرين نموذج لدولة مصرية ناجحة وقوية ومتقدمة وراقية مجتمعيا وأخلاقيا وسلوكيا وفكريا ورائدة ثقافيا وعلميا كل هذه الأوصاف لا شك أنها ستفتح بابا مقلقا سياسيا وضاغطا شعبيا من المقارنة بينهم وبين مصر الجمهورية الجديدة ومن هنا أصبح حلم الجمهورية الجديدة هاجسا يقلق مضاجع من عملوا وسعوا إلى إضعاف وإفشال المشروعات المصرية السابقة ومن هنا تأكد الاختلاف والتعارض التام بين مفهوم العروبة والقومية العربية وبين ما تفرضه تطبيقات واقع ومشروعات الجمهورية الجديدة وكان من أكبر الدلائل على انتهاء مفهوم القومية العربية وانتصار مفهوم الصراع على القوة والنفوذ والتأثير هو المحاولات المستمرة وإنفاق الأموال الباهظة لتفريغ مصر من عناصر قوتها الناعمة مع السعي الدائم والعمل المستمر على إضعاف وإفشال كل عناصر التفوق المصري واستبدالها بعناصر متطرفة التدين أو متطرفة الحرية أو حتى السعي الدائم لمحاولات تشويه وتفكيك تركيبة المجتمع المصري ونسف منظومة القيم والأخلاق والسلوكيات المتحضرة الراقية التي ارتبطت بالشعب المصري حضاريا وتاريخيا .

وقد يكون مفهوم العروبة والقومية العربية كان مرتبطا بظروف سياسية معينة ومحددة ومرتبطة بوقتها وزمانها ولما تغيرت هذه الظروف السياسية كان من الضروري أن تتغير معها المفاهيم والأوصاف التي أتت بها أو صاحبتها في ذلك العصر وكم من نظريات سياسية أو حتى علمية أثبت تقادم الزمن عدم صلاحيتها أو مناسبتها لمستجدات العصر الحديث

 واستغلت دول القومية العربية أو من تقتسم معنا خبز وملح العروبة الفوائض المالية الكبيرة التي تمتلكها في محاولات انتزاع أدوار الزعامة والقيادة والتأثير ولو حتى بقوة التخريب والهدم والإفشال ومما يعني أن أي مساحة تكتسبها هذه الدول تعني انتقاصا من مساحة مصر وأن أي انتزاع لموضع قوة لها هو إضعاف لمكانة ودور مصر ولكن استطاعت الدولة المصرية أن تقود معركة من أعظم المعارك في عصرها الحديث دفاعا عن دورها ومكانتها وتاريخها وقوة واستقلالية قرارها والاعتراف بالدور والمكانة المصرية المتفردة وكان مؤتمر شرم الشيخ الدولي للسلام هو الإعلان عن انتهاء الصراع على الزعامة والقيادة والقوة والتأثير وإعلانا ليس للعرب فقط ولكن للعالم أجمع عن قوة ومكانة ودور مصر ليس في الإقليم فقط ولكن في العالم أجمع وبهذا الإعلان العالمي أصبحت أوصاف القومية العربية والعروبة في حاجة ماسة إلى صياغة جديدة صياغة تتناسب مع مستجدات العصر وعناصر القوة والتأثير صياغة تتناسب مع إعادة تشكيل وتغيير توازنات القوة في الإقليم والعالم أجمع صياغة تبتعد عن مفاهيم الأخوة والأشقاء بمعانيها العاطفية الجوفاء والتي من شدة استهلاكها بعيدة عن مضمونها أفرغتها تماما من كل معانيها وجعلتها لدى المواطن العربي مجرد عبارات لا قيمة ولا معنى لها

القومية والعروبة والأخوة والأشقاء مفاهيم أصبحت تصطدم مع السعي نحو تحقيق المصلحة وأصبحت تصطدم مع واقع وجوهر السياسة الدولية التي تبتعد كل البعد عن هذه المفاهيم العاطفية والشعورية

هذا لا يعني أن تبتعد مصر عن محيطها العربي ولكن إعادة صياغة المفاهيم والمصطلحات والعلاقات التي تبنى عليها أصبح ضرورة وأصبح واقعا يعيشه الجميع وبما يفرض على الجميع مصارحة نفسه بذلك

لا يمكن أن تبتعد مصر عن محيطها العربي ولكن من الواجب الآن وبما يفرضه سياق الأحداث الإقليمية والعالمية تقديم صياغات ومصطلحات جديدة تقنن وتحوكم العلاقات العربية وبما يحفظ لكل دولة خصوصيتها ويدافع ويحمي ويكرس لهويتها الوطنية ويشرعن التنافس المنضبط وفق معايير عقلانية وواقعية منضبطة تحتكم إلى الحضارة والتاريخ والجغرافيا وعناصر وأسس القوة الشاملة

إن مؤتمر شرم الشيخ للسلام طرح مجموعة كبيرة من المتغيرات والتي يجب أن تعمل عليها الدولة المصرية من الآن والتي من أهمها الحفاظ على كل مكتسبات القوة والنفوذ والقيادة والتأثير التي حققتها من خلال انتصارها العظيم في معركة غزة وعبورها لخط التهجير وتهديد السيادة والتراب الوطني من أول إعادة هيكلة وترتيب الدولة المصرية داخليا وإعلان التعبئة العامة لتغيير مفاهيم وأهداف التعليم والثقافة والدين والوعي والإعلام والمواطنة والممارسة السياسية والحريات العامة مرورا بوضع خطط وسياسات واستراتيجيات جديدة لكافة الوزرات  والهيئات والمؤسسات المصرية تتواكب مع المرحلة الجديدة من الإعلان الحقيقي عن قوة وسيادة وقيادة الدولة المصرية وانتهاء بصياغة مفاهيم وسياسات العلاقات العربية والدولية

زر الذهاب إلى الأعلى