د.أمانى فاروق تكتب: “منحة حلا”.. حين تتحول المحنة إلى هدية

ثمة أعمال فنية تأتي لتضيء عتمات الواقع، لا لتكتفي بسرد الحكايات وإنما لتغرس بذور الوعي في نفوس الأجيال. هكذا يطل علينا فيلم “منحة حلا (الهدية)”، أحد أحدث إنتاجات منصة “شاهد” الأصلية، ليضعنا أمام قضية طالما آلمت الكثير من الأسر العربية: التنمر عند الأطفال وما يتركه من ندوب عميقة في النفس قبل أن يكون على الجسد.
الفيلم، الذي عُرض في الرابع عشر من أغسطس الجاري، يروي حكاية الطفلة “حلا” التي تكتشف إصابتها بمرض البهاق وهي لم تتجاوز العاشرة. محنة قاسية جعلتها تواجه نظرات المجتمع القاسية وتنمّر زملاء المدرسة، لكنّها لم تستسلم، بل وجدت في رياضة تنس الطاولة وسيلة للتعبير عن ذاتها وإثبات وجودها. وهكذا تحولت المحنة إلى منحة، والوجع إلى دافع لتحقيق النجاح.
إن التنمر ليس مجرد كلمات جارحة أو سلوكيات عابرة، بل هو جرحٌ نفسي عميق يترك أثره طويلًا على شخصية الطفل، فيقوّض ثقته بنفسه ويزرع الخوف والعزلة في داخله. والأسوأ من ذلك أن الطفل قد يحمل آثار هذه التجربة معه إلى مرحلة الشباب والكهولة، مما يجعله أكثر عرضة للاضطرابات النفسية أو الشعور المستمر بالرفض. وهنا تكمن أهمية أن يُضيء الفن مثل هذه القضايا، ليحرك مشاعر الأسرة والمجتمع نحو حماية الأطفال ورعايتهم نفسيًا قبل أي شيء آخر.
اللافت في هذا العمل أنه لا يكتفي بتناول قضية التنمر في إطارها العام، بل يفتح نافذة على مرض جلدي يندر التطرق إليه في الدراما العربية، وهو البهاق، واضعًا المجتمع أمام مسؤولية القبول والتفهم بدل الإقصاء والتمييز.
ويقف وراء هذه الرؤية الإنسانية المخرجة البحرينية إيناس يعقوب، التي أثبتت مجددًا أن السينما قادرة على أن تكون جسرًا للتربية والوعي، وليست مجرد وسيلة للترفيه. يعقوب بخبرتها في أعمال الطفل ورؤيتها الفنية الهادفة، استطاعت أن تقدم معالجة بصرية مؤثرة، جمعت بين الدراما والرسائل التربوية دون أن تفقد العمل إيقاعه الممتع. ولعل هذا التوازن بين الفن والرسالة هو سرّ نجاح الفيلم وسرّ وصوله إلى صدارة المشاهدة في أكثر من بلد عربي خلال 24 ساعة فقط من عرضه.
والجدير بالذكر أن المنصات الرقمية اليوم، مثل “شاهد”، أضافت بُعدًا جديدًا في معالجة قضايا الطفل مقارنة بالسينما أو التلفزيون التقليدي. فبينما كانت الأعمال القديمة تعتمد على التلقين المباشر أو المبالغة في الخطاب الوعظي، تأتي المنصات الرقمية لتقدم معالجة أذكى وأقرب إلى لغة الجيل، فتدمج بين الترفيه والقيمة، وتطرح قضايا حساسة بأسلوب يليق بعقل الطفل وعاطفة الأسرة. هذه القدرة على الوصول السريع والتأثير العميق جعلت الفيلم يتصدر قائمة الأكثر مشاهدة في مصر والسعودية والبحرين، ويحقق صدى واسعًا في العالم العربي.
لقد أثبتت التجربة أن الفن حين يتبنى قضايا المجتمع، يستطيع أن يغيّر السلوك ويعيد تشكيل الوعي. و”منحة حلا” ليس مجرد فيلم، بل رسالة حب وقبول، تؤكد أن ما نراه ضعفًا قد يتحول إلى قوة، وأن الأمل والإرادة هما السلاح الأجمل في مواجهة قسوة الحياة.
وهنا يأتي الدور الأهم: دور الأسرة والمعلمين. فإذا كان الفن قد قدّم رسالته بصدق، فإن على كل أب وأم ومعلّم أن يحملوا هذه الرسالة إلى أرض الواقع. أن يزرعوا في نفوس الأطفال الثقة والطمأنينة، وأن يكونوا السند في مواجهة أي شكل من أشكال التنمر. فالكلمة الطيبة قد تكون إنقاذًا، والاحتواء قد يكون خلاصًا، والقبول قد يكون بداية رحلة نجاح جديدة.
—–
مدير مركز التدريب والتطوير بمدينة الانتاج الإعلامى