مقالات الرأى

جمال رشدي يكتب: كيف نحمي مصر؟

0:00

منذ عام 2014، وأنا أكتب وأحذر، وأطرح رؤى واضحة عبر مقالاتي وصفحاتي على وسائل التواصل الاجتماعي، حول حتمية التحرك الاستراتيجي لبناء دولة عصرية تواكب حجم التحديات التي تواجهها مصر داخليًا وخارجيًا.
وقد أكدت مرارًا أن حماية الدولة لا تتحقق فقط بالقوة العسكرية أو البنية التحتية، بل تبدأ من صياغة عقلية صناعة القرار، وتحصين مؤسسات الدولة من الداخل، بالتوازي مع امتلاك أدوات المستقبل في مجالات التكنولوجيا والسيادة الرقمية والحوكمة المؤسسية.

مصر اليوم بحاجة إلى دائرة نوعية تُحيط بالسيد الرئيس، تتكون من عقول مصرية مهاجرة، أثبتت كفاءتها في مؤسسات عالمية، وتشغل مناصب علمية وعملية مرموقة، وتمتلك من الخبرات والمهارات ما يجعلها مؤهلة لقيادة عملية التحول إلى دولة ذكية قوية. تلك العقول يمكن أن تنقل الدولة إلى مستوى مختلف من الكفاءة والتخطيط والشفافية، بما يليق بطموح مصر في الجمهورية الجديدة.

اختيار الكفاءات من الخارج ليس تجاوزًا لأبناء الداخل، ولكنه ضرورة فرضتها حالة الجمود الإداري والبيروقراطي التي ما زالت تسيطر على كثير من المؤسسات، نتيجة تراكمات ذهنية وثقافية ممتدة منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أنتجت عقلًا جمعيًّا متصلبًا يرفض التحديث، ويدور في حلقة مغلقة من مقاومة كل تطور.

في السياق ذاته، لا يمكن إغفال خطورة اختراقات التيارات المتطرفة داخل مفاصل الدولة. لقد طالبت منذ سنوات بضرورة منح جهاز الأمن الوطني صلاحيات كاملة وغير مشروطة، للوصول إلى أعماق مؤسسات الدولة، وتطهيرها من بقايا الجماعة الإرهابية وأتباعها والمتعاطفين معها. هؤلاء لا يمكن احتواؤهم ولا تأهيلهم، لأنهم أدوات حارقة، لا تعمل إلا ضد الوطن في اللحظة المناسبة. وجودهم في قطاعات مثل التربية والتعليم والمرافق الحيوية، مع ما يمارسونه من سب وقذف للدولة على مواقع التواصل الاجتماعي دون رادع، يُعد خطرًا مباشرًا على الأمن القومي. إن الصبر والتساهل معهم هو ترف لم يعد متاحًا، فالدولة في معركة وجود، وأي تراخٍ في تطهير الجسد الوطني من عناصر التشويش والتفكيك سيُعد تقصيرًا تاريخيًا لن تُغفر نتائجه.

المشهد الحالي لمصر ليس منعزلًا عن محيطه الدولي، بل هو جزء من معادلة كبرى تُعاد صياغتها على مستوى العالم. وما تتعرض له البلاد اليوم هو جزء من حرب سيبرانية مركبة، تقودها قوى غربية وإقليمية لا تُخفي انزعاجها من استقلال القرار المصري، ومحاولته الخروج من عباءة التبعية. لقد سقط مشروع “الشرق الأوسط الجديد” بفعل الإرادة المصرية، وتحوّلت مصر إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية، بفضل قيادة سياسية اتخذت قرارًا سياديًا ببناء دولة قوية وجيش عصري لا يُستدرج إلى المستنقعات، وبنية تحتية عملاقة تفتح آفاقًا استثمارية جديدة.

وإذا أردنا فهم ما يجري حاليًا، يكفي أن نربط بين تسلسل الأحداث داخليًا والتحركات الدولية. فمنذ واقعة غش البنزين التي أربكت الشارع، مرورًا بحوادث الطرق المروعة المتكررة، وصولًا إلى موجة الحرائق الغامضة، وعلى رأسها حريق سنترال رمسيس، الذي اشتعل ثم تجدد خلال أيام معدودة، يمكننا أن نستشعر أن هناك عبثًا منظمًا ومتصاعدًا. الأخطر أن هذا التصعيد جاء متزامنًا مع زيارة رئيس مجلس الدولة الصيني إلى القاهرة، والتي تم خلالها الإعلان عن اتفاق ثنائي للتبادل التجاري بالعملات المحلية بدلًا من الدولار. وهي الخطوة التي تُعد إعلانًا رمزيًا على ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تقوده الصين وروسيا وشركاؤهم، وتشكل فيه مصر أحد أطراف المعادلة.

هذا التزامن لا يمكن فصله عن مجريات المشهد، وكأنه رسالة مبطنة مفادها: إن التمادي في الاستقلال قد تكون له كُلفة داخلية. فحين تعجز القوى الكبرى عن كبح القرار الوطني عبر الضغوط المباشرة، فإنها تلجأ إلى أدوات الجيل الرابع والخامس من الحروب، التي تُفكك الداخل وتزرع الشك وتنشر الفوضى من خلال أذرع إعلامية وسيبرانية ناعمة، وأدوات اختراق خفية داخل المؤسسات.

وإزاء هذا الواقع، لم يعد كافيًا أن نُشيد بما تحقق، بل علينا أن نُفعّل أدوات الحماية الوطنية بأقصى سرعة، من خلال تمكين جهاز الأمن الوطني دون قيود، ومن خلال بناء نواة صناعة قرار تكنولوجية حول الرئيس، ومتابعة ما تم تنفيذه من خطط التحول الرقمي، وفق معايير وطنية صارمة، تُعيد ضبط بوصلة التحديث الحقيقي. إلى جانب ذلك، نحتاج إلى استراتيجية إعلامية متماسكة، تعزز الوعي الوطني وتُحصّن المجتمع من الشائعات الممنهجة، وتحول دون تآكل الثقة بين المواطن ودولته.

مصر لم تكن يومًا دولة سهلة، ولا ستكون. لكنها مستهدفة، لأنها قررت أن تكون دولة حقيقية. القرار السيادي ليس شعارًا، بل مسؤولية، وهذه المرحلة تتطلب أن نقف جميعًا خلف الدولة، لا بالمزايدة، بل بالعلم والانضباط والعمل الجاد والتطهير الجذري من كل اختراق.

لقد بدأت الحرب الحقيقية، لكنها بلا رصاص. فهل نُدرك ذلك قبل فوات الأوان؟ وهل نملك الجرأة لتطبيق ما هو ضروري، حتى لو كان موجعًا؟
الإجابة تحدد مصير وطن

زر الذهاب إلى الأعلى