فراغ الحقائق.. تمهيد نيراني لحرب باردة
عبدالمنعم مصطفى - محلل سياسي وخبير في الشئون الدولية

نقلاً عن موقع “المدن”
لدينا طول الوقت، فراغ حقائق لا تملأه السياسة، ولا يقدر على ملئه الإعلام، ولا يتصدى له صناع السياسة في بلادنا، لكن أعداءنا يعرفون طريقه ومواقيته ويحشون تجاويفه بما قد يملأ بعض هذا الفراغ، ويتيح لهم امتلاك قدر حقيقي من الرؤية، ومستوى رفيع من التأثير و الإستشراف.
المظاهرات التي جرى حشدها امام السفارات المصرية في بعض العواصم الأوروبية للمطالبة برفع الحصار عن غزة، قد يسجلها التاريخ-لاحقاً- باعتبارها واحدة من أكبر تجليات الطور الراهن من أطوار حرب اعادة هيكلة الشرق الأوسط. فالأطراف التي هيأتها قوى كبرى وعظمى،لأدوار تهتم بمنعطفات خطط كبرى لإعادة صياغة الإقليم،قد جرى استدعاءها،للاستفادة منها في ملء فراغات حقائق،لا تملؤها السياسة في بلادنا،ولا يقدر على ملئها الإعلام.
ولفرط غرابة ما يجري في طور من أطوار الصراع حول مستقبل نظام إقليمي شرق أوسطي جديد، بعد إضعاف سوريا، وترويض تركيا،ولجم إيران.
فإن محاولات إصطياد مصر خارج سياق إقليمي كان طول الوقت درقة حامية لها، وكانت هي طول الوقت درقته الحامية، تستمر وتستعر، كلما اقتربت حكومة نتانياهو، وإدارة ترامب من تحقيق رؤيتها لمستقبل الإقليم،ولمستقبلها فيه.
ضمن هذه المحاولات بالطبع، وربما في مقدمتها، عزل مصر عن فضائها العربي،والشرق أوسطي، والدولي، وهي مهمة تبدو صعبة لكن في السياسة لا مستحيل!.
الهدف المطلوب-مرحلياً-هو “حرمان مصر من فضائها الحضاري،والإنساني، وحتى من فضائها الإسلامي،الذي اعتادت ان تتصدر فيه باعتبارها درقة حامية للإسلام الوسطي المعتدل، بل ان مكانة مصر في محيطها الاسلامي باعتبارها بلد الأزهر الشريف اتاحت لها امتلاك قاعدة جماهيرية كاسحة وسط ملايين من المسلمين يحبون أن يروا أنفسهم كمواطنين أزهريين يباهون الدنيا بمواطنتهم الأزهرية.
عملية تضليل واسعة جارية، ومازالت تجري،هدفها الأول حرمان مصر من قوتها الناعمة و درقتها الحامية، في شيء يشبه حرمان ايران من شبكات دفاعها الجوي،قبل شن الهجوم عليها في حرب الإثنى عشر يوماً.
لا اعرف هوية هؤلاء الذين يتظاهرون أمام سفارات مصرية بعواصم اوروبية متهمين مصر بأنها تحاصر غزة!! لكنني قد التمس العذر لبسطاء من بينهم لا يعرفون أن لغزة خمس معابر بينها معبر واحد مع مصر هو معبر رفح المخصص أساسا لعبور الأفراد لا البضائع،وأن هذاالمعبر ذاته له فتحتان احداها على الجانب المصري والأخرى على الجانب الفلسطيني، وأن المسافة بين الفتحتين دمرتها اسرائيل فلم تعد صالحة للعبور، وان معبرا آخر هو كرم ابو سالم يربط سيناء بإسرائيل هو الذي تجتازه الشاحنات المحملة من مصر بمواد الاغاثة ،هذه الحقائق البسيطةيعرفها حتى أطفال غزة،فكيف بجماعات منظمة في عواصم الغرب أن يختلط عليها الامر فتعفي بنيامين نتانياهو من المسؤولية عن تجويع غزة بعدما ادانته حكومات اوروبا، وبعدما اضطر الرئيس الامريكي ترامب الى الإقرار بوقوعها؟!
ما يجري من تضليل إعلامي في شأن تجويع غزة، يستدعي الى الذاكرة محاولة أندريه. جيريتس وهو باحث متخصص في قضية التضليل المعلوماتي في العلاقات الدولية، الإجابة عن هذا السؤال في مقال له نشر مؤخراً تحت عنوان “Disinformation in International Relations: How Important Is It?” مركزًا على مدى خطورته وتأثيره، منطلقاً من فرضية مفادها أن المعلومات أصبحت سلاحًا، وأن التلاعب بها يمثل أداة استراتيجية تستخدمها الدول، خاصة في ظل تزايد الاعتماد على الفضاء الرقمي في التفاعل السياسي والدبلوماسي.
بداية، يعرف جيرتيس التضليل المعلوماتي بأنه نشر متعمد لمعلومات خاطئة أو غير متوازنة من قبل دول أو جهات فاعلة غير حكومية، بهدف إثارة الانقسامات والبلبلة داخل مجتمعات الدول المستهدفة، ومن ثم استغلال تلك الانقسامات لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية. ويشير إلى أن هذا النوع من التضليل لا يُنتج الانقسامات من العدم، بل يتغذى على التوترات القائمة بالفعل داخل المجتمعات، مما يجعله أكثر فاعلية وأصعب في المواجهة. ومن اللافت أن التضليل في شكله الحديث يتميز باستخدام أدوات تكنولوجية متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، والحسابات الوهمية، و”الروبوتات” الرقمية، وهو ما يضفي عليه طابعًا مختلفًا عن الدعاية التقليدية .
لكن استراتيجيات التضليل المعلوماتي،ليست طليقة اليد فهناك اربعة تقنيات للتصدي لها، طبقاً ل جيرتيس ، أولها، تعليمية: تركز على تعزيز الوعي الإعلامي والقدرة النقدية لدى المواطنين
والثانية وقائية: تعتمد على التكنولوجيا لرصد وكشف المحتوى المضلل.
والثالثة سلطوية: تتضمن فرض تشريعات رقابية.
والرابعة سياسية: تسعى إلى بناء تدابير للثقة المتبادلة بين الدول. غير أن جيرتيس يشير إلى أن هذه الاستجابات تواجه تحديات كبيرة، أبرزها صعوبة إثبات مصدر التضليل أو نوايا الجهات الفاعلة، بالإضافة إلى تنامي ظاهرة “الواقع البديل” لدى قطاعات واسعة من المجتمعات، وهي التي تعزز مناعة الأفراد ضد الخطاب الرسمي.
وفي مناقشته لمسألة ما إذا كان التضليل يشكل تهديدًا أمنيًا حقيقيًا، يرى جيريتس ” أن التضليل لا يمكن اعتباره تهديدًا استراتيجيًا جذريًا في الوقت الراهن، لكنه يؤكد في الوقت ذاته على أن التضليل يلعب دورًا تخريبيًا، حيث يفاقم التوترات الداخلية ويضعف من الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، مما يجعله تحديًا أمنيًا “ناعمًا” لا يمكن تجاهله.ويخلص إلى أن التضليل ليس مجرد قضية تقنية، بل هو بالأساس مسألة سياسية تتطلب استجابات سياسية طويلة المدى تعالج جذور الانقسامات والتوترات التي يستغلها التضليل، لا سيما في الفضاء الإلكتروني العالمي المتغير”.
تعرضت مصر وماتزال لواحدة من اكبر عمليات التضليل المعلوماتي وتشويه الصورة، استعان من دشنوها بكل ماهو متاح، من أول حشد، وتدريب، وتسليح، وتمويل قوى معارضة في الخارج،ليس فحسب لتشويه الحقائق وإنما لقلبها رأساً على عقب، بحيث تصبح مصر،لا إسرائيل هي من تحاصر وتخنق وتجوع أهل غزة.
ماذا تريد اسرائيل أكثر من هذا؟! إنه يتجاوز حتى أحلامها..معارضون مصريون في الخارج يتحالفون علناً ودون أدنى خجل مع رواية اسرائيلية،تريد تصوير مصر بأنها هي من تحاصر غزة وتجوع شعبها!!
حديث الإفك الذي يتجاهل عامداً متعمداً، جملة من الحقائق،لعل من بينها ان مصر لن توافق على ادخال المساعدات الى غزة عبر معبر رفح مالم تنسحب اسرائيل منه،والسبب أن مصر لن تشرعن إحتلال وإدارة إسرائيل لمعبر رفح من الجانب الفلسطيني بما يخالف اتفاقية المعابر الموقعة في نوفمبر 2005 بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية في وجود طرف ثالث مراقب وهو الاتحاد الأوروبي . وعليه كان قرار مصر في مايو 2024 حين اجتاحت القوات الإسرائيلية جنوبي القطاع واحتلت الجانب الفلسطيني من معبر رفح، بوقف إدخال شاحنات المساعدات . وقتها خرج وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، وأعلن أن مصر تغلق معبر رفح وترفض إدخال المساعدات … وكان ذلك جزء من الضغط السياسي والإعلامي لإحراج مصر … وحين فشلت هذه الضغوط، اتجهت إسرائيل إلى إدارة بايدن وقتها التي سعت للضغط على مصر، لكن القاهرة رفضت الأمر وأصرت أنها لن تتعامل سوى مع طرف فلسطيني على الجانب الآخر من المعبر، وعليه عقدت اجتماعات ثلاثية بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، للوصول لتفاهمات حول معبر رفح، فطرحت تل أبيب وقتها فكرة “إنشاء أبراج مراقبة” على المعبر فرفضت مصر هذا المقترح وشددت أن الحل في وجود أفراد تابعيين للسلطة الوطنية الفلسطينية يتولون إدارة المعبر في وجود مراقبين أوروبيين، وأبدى وقتها الاتحاد الأوروبي استعداده للمشاركة وفقا لما نص عليه اتفاق المعابر في 2005.
مع الرفض المصري وصد الضغوط الأمريكية الإسرائيلية، توصل الرئيس الأمريكي جو بايدن في اتفاق مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي”وفقا لبيان الرئاسة المصرية في 24 مايو 2024″، بأن تستمر المناقشات والمباحثات لحين التوصل لاتفاق بين مصر وإسرائيل، على أن تستأنف مصر إدخال المساعدات لقطاع غزة عبر معبر “كرم أبوسالم” الإسرائيلي وهو ما جرى ويجري الآن بالفعل. فجميع المساعدات المصرية التي دخلت وتدخل غزة منذ مايو 2024 وحتى اليوم كانت من خلال معبر كرم أبوسالم، وحتى لو أعادت إسرائيل تأهيل الجانب الفلسطيني من معبر رفح وقامت بفتحه، فمصر لن تقدم على التعامل مع إدارةإسرائيلية للمعبر.
الحملة على مصر ، هى بلغة الحرب، تمهيد نيراني لمعارك تبدو وشيكة، كلما تسارع إيقاعها، لكن التصدي لهذا المخطط الشيطاني يقتضي من مصر جهداً سياسياً مع الداخل بالأساس،يشرع الأبواب لبناء جبهة داخلية لا تقدر عليها حملات التشويه التي أصابها السعار.