د.أمانى فاروق تكتب: نويزي تي في: كوميديا خفيفة صرخت في وجه الإعلام المزعج

ليلة لا تُنسى، حملت بين طياتها رسالة أعمق مما توقعت. بدعوة من الإذاعي والفنان محمد نشأت، حضرت على مسرح السامر بالعجوزة عرضًا مسرحيًا بعنوان “نويزي تي في” أو كما يمكن ترجمته “التلفزيون المزعج”، وهو عرض جاء ضمن مبادرة وزارة الثقافة المصرية لدعم المسرح، فكان الحضور مجانيًا ومفتوحًا لكل محبي الفن الحقيقي.
منذ اللحظة الأولى، شعرت أنني أمام تجربة مختلفة. المسرحية قدمت نفسها بروح الكوميديا الخفيفة، حيث اجتمع الضحك البسيط مع لمسة من السخرية الذكية، في مواقف يومية نعرفها جميعًا، لكنها هنا قُدمت بطريقة ممتعة وجذابة. كانت فواصل استعراضية مرحة تتخلل المشاهد، تمنح الجمهور استراحة خفيفة قبل أن يعود ليتابع نقدًا ساخرًا وحقيقيًا لبعض ممارسات الإعلام الحديث.
“نويزي تي في” لم تكن فقط عرضًا ترفيهيًا، بل كانت بمثابة مرآة وضعتها المسرحية أمام الجميع، ليروا كيف تحول بعض الإعلام من رسالة نبيلة إلى سلعة تباع وتشترى. سلطت المسرحية الضوء بأسلوب كوميدي ساخر على ظاهرة خطيرة أصبحت واقعًا في بعض القنوات الفضائية، وهي ظاهرة “بيع الهواء” أو “شراء الوقت”، حيث تُباع ساعات البث لمن يدفع أكثر، دون أدنى اعتبار لمحتوى البرنامج أو العمل المعروض، سواء كان مفيدًا أم ضارًا، بناءً أم هدامًا.
ولم يقتصر عرض “نويزي تي في” على البرامج، بل امتد بذكاء إلى الدراما، حيث أشار العرض إلى أهمية أن تكون الدراما الاجتماعية حاملة لهموم المجتمع وقضاياه الحقيقية، بدلاً من أن تتحول إلى مشاهد مؤذية وشخصيات مبالغ فيها تخطف الأنظار دون أن تحمل في طياتها فكرة قوية أو رسالة تستحق أن تصل للناس. فقد سلط العرض الضوء، عبر مشاهد كوميدية لاذعة، على بعض الأعمال التي تملأ الشاشة اليوم بشخصيات طريفة أو غريبة ولكن بلا مضمون حقيقي، مما يجعل المشاهد يضحك أو يندهش لحظة، ثم ينسى كل شيء بعدها. كانت دعوة واضحة إلى صناع الدراما أن يعيدوا النظر في رسالتهم، وأن يتذكروا أن العمل الدرامي العظيم هو ذاك الذي يترك أثرًا في الوجدان لا مجرد مشهد عابر.
وقد نجح العرض بذكاء أن يربط بين هذا البيع العشوائي وبين تأثيره المدمر على المجتمع. فمن خلال مشاهد بسيطة ولكن معبرة، استطاع أن يوصل فكرة أن ترك الشاشات مفتوحة لمن يدفع فقط يعني ترك العقول بلا حماية، وفتح الأبواب أمام كل فكر مسموم، وكل محتوى غير مسؤول.
اللافت في المسرحية لم يكن فقط الموضوع الذي تناولته، بل كان الأداء الجماعي المميز الذي جمع فريق العمل. فقد بدا الجميع وكأنهم نسيج واحد يتحرك بتناغم وسلاسة. كانت كل شخصية تؤدي دورها بإخلاص، وكأن كل منهم يعرف تمامًا دوره في صناعة هذا العمل المتكامل.
وتألق محمد نشأت بشكل خاص، إذ تمكن ببراعة من التحول بين عدة شخصيات مختلفة خلال العرض بطريقة سريعة وسلسة. أدهشني شخصيًا بقدرته الفريدة على تغيير أدائه ومظهره وحركاته بين شخصية وأخرى، دون أن يُشعرنا بأي فاصل أو انقطاع. كان يتنقل بين الشخصيات كمن يعزف على آلة موسيقية بمهارة عالية، فزاد العرض حيوية وخفة، وجعل الضحكة تخرج صافية من قلوب الجمهور.
ولا يمكن أن أنسى الإشادة بالمخرجة التي قادت هذا العمل بروح متميزة، فجعلت الانتقالات بين المشاهد طبيعية وسلسة، وضمنت أن تبقى طاقة العرض عالية من بدايته حتى لحظاته الأخيرة. كان واضحًا أن هناك عملاً جماعياً صادقاً يقف خلف هذه التجربة الفنية الناجحة.
“نويزي تي في” جمعت بين البساطة والعمق، بين الضحكة الصادقة والفكرة الكبيرة. استطاعت أن تضع يدها على الجرح دون أن تثقل على الجمهور، بل صنعت مزيجًا رائعًا من المتعة والتفكير.
وفي نهاية هذه الليلة التي جمعت الفن بالرسالة، لا أجد أفضل من أن أردد بقوة ما حاول العرض أن يقوله لنا جميعًا:
أوقفوا بيع الهواء!
لا تتركوا شاشاتنا سلعة تُعرض لمن يدفع أكثر، ولا تسمحوا بأن يصبح الإعلام معول هدم بدلاً من أن يكون وسيلة بناء. نحن بحاجة ماسة إلى إعلام يزرع الأمل، يصنع الوعي، ويحترم عقول الناس.
إن الإعلام الهادف والدراما الصادقة ليسا ترفًا ولا خيارًا هامشيًا، بل هما خط الدفاع الأول عن وعي المجتمع ومستقبله.
فلا شيء أخطر على الأوطان من أن يُترك الهواء لمن يلوثه، ولا شيء أثمن من كلمة تُقال بصدق على شاشة تعرف قيمتها وقيمة جمهورها.
——
مدير مركز التدريب والتطوير – مدينة الإنتاج الإعلامى