مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: أحمد بطاطس!!

مهنة الترزي من أقدم المهن والحرف، ورُوي أنّ نبيَّ الله (إدريس) عليه السلام _ الذي كان يسكن صعيد مصر _ كان خيَّاطًا، وقيل هو أولُ من خاط الثياب؛ حيث كان الناسُ مِن قبلِه يعتمدون على الجلود في لباسهم، وأنّه كان _ عليه السلام _ يُسبِّح الله _ تعالى _ ويذكره كلما وخزَ الإبرةَ في الثوب.

المهنةُ إذًا تعودُ إلى آلاف السنين، وقد برعَ المصريون القدماءُ في صناعة الملابس وتطريزها بأشكالٍ متنوعة عكست الثقافةَ والحضارةَ المصرية، وكانت الزخارفُ المُعقدة والتطريزاتُ الدقيقة تعكس مكانةَ الشخصِ في المجتمع. وعبر العصور، تطورت هذه المهنةُ، وتنوعت التصميماتُ والموادُّ المستخدمة، حيث استمر الترزي المصرى في الازدهار خلال العصور القديمة والحديثة.

وكلمة (تَرزيّ) تعني (الخيَّاط) والجمع (تَرْزِيّة)، وهي كلمة مُعَرَّبة من أصل فارسي، وأصلها بالفارسية (دَرْزِي) وقد أخذت الجنسِيةَ العربية وأُخْضِعَت لنظام الجملة العربيَّة.
أما (الثوب) فكلمةٌ عربيَّة صحيحة، يقابلها في الفارسية (الدَّرْز).

أصعب (ترزي) هو الترزي الحريمي؛ ربما لاهتمام السيدات بأناقتهن أكثر، وحاجة بعضهن إلى ملابس أكثر أناقة أو أكثر جاذبية ولفتًا للأنظار أو أكثر سخونة، كل واحدة حسب ميولها، وما ملابس الفنانات بالمهرجانات السينمائية عنا ببعيد!! وربما لأن إرضاء السيدات والبنات أمرٌ صعب، خاصةً المترددات منهن، فلا تكاد الواحدة تقتنع بأمر إلا وتُغَيِّرُه!!

على أية حال كان (أحمد منصور) وشهرته (أحمد بطاطس) _ ولا أدري سببَ التسمية، وهل لشكل رأسه علاقة بذلك؟! _ كان (بطاطس) أشهر ترزي حريمي في بلدتنا (سنباط _ غربية) بل في منطقتنا، وفي عصر ما قبل انتشار الملابس الجاهزة، كانت العروس التي يَخيطُ لها الثيابَ (أحمد بطاطس) (يا سعدها يا هناها)!!؛ إذ لم يكن العثورُ عليه أمرًا سهلًا، وكانت مواعيده (فِشِنْك)!! إلا أنه كان (صنايعي) صاحب مزاج، و (مقص دار مافيش زيُّه)!! لذلك كان أهل العروس إذا كانوا يمتلكون (ماكينة خياطة)، _ وفي فترة من الفترات انتشرت ماكيناتُ الخياطة من ماركة (سينجر) في معظم البيوت _ يُلقون القبضَ على (أحمد بطاطس) فيلزم بيتَهم وماكينتهم حتى ينتهي من ملابس العروس، وما عليك إلا أن تكون في خدمته (شاي وقهوة وسجاير) حتى تنتهي المهمة بسلام ونجاح، الشاي والقهوة ضيافة أهل المنزل والسجاير تُخصم من حسابه النهائي، وإياك أن تَسمح له بمغادرة المنزل قبل الانتهاء من مهمته، فغالبًا لن يعود، وسيتبخر كما الزيبق، وإياك أن تبعث له بالقماش إلى منزله فغالبًا لن تحصل عليه مَخيطًا إلا بعد شهور!!

(أحمد بطاطس) متوسط القامة أقرب إلى القصر ذو بشرة سوداء وبطن يتدلى أمامه، لا تفارق السيجارة أصابعه، يعي أنه (شاطر) ويعرف قيمة أنه (صنايعي درجة أولى)، يُجمِعُ أهلُ البلدة أنه إن كان قد انتبه لنفسه لكان قد اشترى (سنباط) كلها!! لكنها أرزاق، (علشان غيره ياكل عيش) كما كان يقول الناس. (أحمد بطاطس) كان طيبًا، يحب الناسَ ويُحبونه، ولا يَغضبون منه حتى لو ضاعت أقمشتُهم أو تأخر عليهم في حِياكتها؛ فالمصريون يُقدرون أصحابَ المزاج العالي البارعين الماهرين في مهنتهم (الشاطرين)، ويغفرون لهم تقصيرَهم في حَقهم؛ فقطعة الأرابيسك التي تَخرجُ من تحت أيديهم تَجُبُّ كلَّ تقصير!!

زر الذهاب إلى الأعلى