حازم البهواشي يكتب: تأدب في فهمك للناس
تحكي القصة التي طالعتُها (أن أحد الملوك قديمًا أرسل ابنَيْهِ مع أحد مستشاريه لتعلم الآداب العامة وفنون التعامل مع الناس “الإتيكيت”، وبعد أن صحِب المستشارُ ابني الملك شهرين وهو يعلمهما كلَّ ما يجب على أبناء الملوك معرفتُه من آداب، ومنها آداب الضيافة والمائدة طلبَ منهما أن يتركاه ويذهبا سويا إلى أقرب قرية إليهما، وأن يَطرُقا بابَ أيِّ منزلٍ بصفتِهما ضيفين.
عمِل ابنا الملك بما قاله المستشار، وكانا ضيفين لدى صاحب مسكن في طرف القرية، قدّم لهما ما لديه لضيافتِهما، وباتا عنده، ثم انصرفا عند بزوغ الفجر.
قدِم ابنا الملك إلى المستشار فسألهما: ماذا وجدتُما لدى مَن استضافكما من آدابٍ تعامل بها معكما؟
قال الابنُ الأول:
لقد استقبَلَنا وثيابُه مُتسخة وهو يَحمِلُ الحَطَبَ في يدِه، وانطلق أطفالُه نحونا يتحدثون معنا وكأنما لم يَرَوا أُناسًا قبلنا، وعندما وَضَعَ لنا الطعامَ، وضع ثلاثةَ أنواع، إلا أنه جاء ببعضه منقوصًا من الأطراف، وأوانيه لا تناسُقَ بينها، بعضُها مكسورٌ من أطرافه، وجعلَ أطفالَه يَتحدثون إلينا دُون أن يَنهرَهم، وهو يضحك لحديثِهم معنا!! وعندما جاءَ وقتُ النوم، أحضرَ لنا أغطيةً وفُرُشًا مِن رائحتِها يَتبينُ أنه وأطفاله ناموا عليها والتحفوها بالأمس!! إنني أرى أن أهلَ القرى يحتاجون لتعلُّمِ آدابِ الضيافة، فما فعَلَه استهانةٌ بضيوفِه وعدمُ مُبالاة!!
نظرَ المستشارُ إلى الابن الثاني وسأله: وأنتَ، ماذا رأيتَ؟
قال: مِن شِدَّةِ فَرَحِ الرجلِ بنا استقبلَنا وثيابه مُتسخة، وهو يحمِلُ الحَطَبَ في يده، فلم يذهب لتبديل ملابسه، ولا وضعَ حَطبه حتى لا يتأخرَ علينا عند الباب، وقد انطلق أطفالُه نحوَنا يُقبلون روؤسَنا ويتحدثون إلينا وكأنما نحن عائلةٌ واحدة!! وعندما وضع لنا الطعامَ وضعَ ثلاثةَ أنواعٍ، ومِن الواضح أنه كلُّ الطعام الذي لديه في تلك الليلة، وكأنه أخذه لأجلِنا من أمامِ أهلِه وهم يأكلون؛ لأن بعضَه منقوصٌ من الأطراف، وقدَّمه لنا في أوانٍ لا تناسقَ بينها وكأننا مِن أهلِ بيتِه أو أقربِ أقاربِه، ويَتبين من الكسور التي في أطرافها بأنها تُغْسَلُ دائمًا، بما يَعني أنه دائمُ تقديمِ الطعامِ لضيوفه. وقد جعلَ أطفالَه يَتحدثون إلينا بأحاديثَ رائعةٍ أضحكتنا وجعلتنا نَشْعُرُ أننا نتسامرُ مع أهلنا. وعندما جاء وقتُ النوم أحضر لنا أغطيةً وفُرُشًا يَتبين أنها كلُّ ما يَملكه!!
إنني أرى أن الرجلَ مِن كَرمِه وحُسن أدبِه جعلنا نَشْعُرُ أننا بين أهلنا، وأرى أننا يجبُ أن نتعلمَ آدابَ الضيافةِ من أهل القرى؛ فما فعله الرجلُ غايةٌ في الاحترام، ولم نَشْعُرُ معه بأننا غرباء!!
نظر المستشار إلى الابن الأول قائلا: إنك لم تتعلم، ويجب أن تعيد التفكيرَ في نظرتك وفهمِك للناس!! ثم نظر للثاني قائلا: أما أنت فقد أيقنتَ أن الآدابَ (الإتيكيت) ليست أنْ يتأدبَ الناسُ معك فيما يُقدمونه وما يَفعلونه لضيافتِك، إنما كيف تتأدبُ أنتَ في فهمِك للناس، وأن تنتقلَ من الانتباهِ للأواني وما تَحويه، إلى الانتباهِ للأنفُسِ وما تحمِلُه أو تُبديه!! “الإتيكيت في أدبِ النفوس وليس في أشكال الموائد”).
وتظل البساطةُ جاذبة، والنفوسُ الراقيةُ في أهل الرُّقي راغبة، ورسول الله عن التكلف والكِبر قد نهى، وهو القائل وقد صدق: (حَرُم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ)، ولا بد أن يُحسِنَ المرءُ الظنَّ بالناس ويكونَ في كلِّ الأحوالِ كيِّسًا فطِنًا.