حازم البهواشي يكتب: إن الله معنا

لم يَشُكّ رسولُ الله _ صلى الله عليه وسلم _ لحظةً في نصر الله، وليس هناك بين البشر من هو أحقُّ بنصر الله من رسوله، لذلك فإنه حين قال لصاحبه: “… لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ… ” (التوبة _ 40) كان مطمئنَ الفؤاد، رابطَ الجأش، وإن كان لا يفصلُه عن عدوِّه إلا نظرةٌ لأسفل؛ فمَنْ كَانَ اللهُ مَعَه، مَاذَا فَقَد؟! ومَن كانَ اللهُ عَليه، مَاذا وَجَد؟!
ومع ذلك التأييد الرباني فإنه _ صلى الله عليه وسلم _ لم يُفرط في الأسباب، فأحكمَ خُطته وأعدَّ عُدَّتَه، ولم يقل (سيبها على الله) دون إعدادٍ وتخطيط!! إنها (على الله) دون شك، ولكن ماذا فعلتَ لتستحقَّ عونَ الله وتأييدَه؟! هل تطلبُ من الله أن يساعدَك وأنت لم تساعدْ نفسَك؟! هل تُغني صلاةُ الطالب ودعاؤه عن مذاكرته؟! وهل يُغني قيام الليل عن تجهيز ما يلزم لأي أمر؟!
يقول الشيخ محمد الغزالي (1917م _ 1996م): “وشأنُ المؤمنِ مع الأسبابِ المعتادة، أن يقومَ بها كأنها كلُّ شيءٍ في النجاح، ثم يتوكلَ _ بعد ذلك _ على الله، لأن كلَّ شيءٍ لا قيامَ له إلا بالله”.
“لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا” كلماتٌ تُهدئ القلب، فهي تُشبه العِناقَ الذي يجعلك تشعر بالدِّفءِ والطمأنينة، والعِناقُ يُخفف الآلام، فإن كنتَ مُجهدًا مُرهَقًا قلّ إحساسُك بالإرهاق، وإن كنتَ قلِقًا تشعر بالطمأنينة.. ثمَّة مفرداتٌ كأنها حِضن على رأسها “إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا”، فشعورُ المعيَّةِ امْتِلَاءٌ عَاطِفِيّ وَسَنَدٌ وَأمَان، مَهْمَا اجْتَمَعَتْ عَظَائِمُ الأمُورِ وظُرُوفُ الزَّمَان، مَدَدٌ مِنَ السَّمَاءِ لَنْ يَخْذُلَ صَاحِبَهُ مَهْمَا كَان.
“إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا” اِجْعَلْهَا عُنْوَانَ مَسِيرَتِكَ فِي الحَيَاة، وَحَدِيثَ نَفْسِكَ حِينَ يُحِيطُ بِكَ المُحْبِطُون؛ فمَعَ الله كُلُّ المَخَاوِفِ تَتَلاشَى، بَلْ تَنْقَلِبُ أمْنًا وَثَبَاتًا. كُنْ مَعَ الله، يَأْتِكَ الأَمَلُ مِنْ أَسْبَابِ الأَلَم، فوُجُودُ آلامِك لا يَعْنِي انْعِدَامَ آمَالِك؛ فَلا يَأْسَ مَعَ الله، سُبْحَانَه… يُفَاجِئُكَ بِالنُّورِ يَنْفَلِقُ مِنْ بَيْنِ الظُّلُمَاتِ الحَالِكَة. إنه اليَقِينُ الذي لا بُدَّ أنْ تَحْمِلَهُ فِي قَلْبِك؛ لِتَجْبُرَ بِه كَسْرَك، وَتَشُدَّ أَزْرَ مَنْ حَوْلَك.
“إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا” استشعارُ هذه المعية والإيمانُ بها واليقين سببُ انحسار الحزنِ والخوفِ عن القلب، وليس منا إلا من يحتاج معيةَ الله فهو يعلم وأنت تجهل، هو يُدبر وأنت لا تُحسن التدبير، هو مَن لا تُعجزه الأسباب، وأنت يَعُوقك الكثير، هو القاهرُ القادر وأنت العاجز، هو القوي وأنت الضعيف.
بكى الصِّدِّيقُ حين عَلِمَ أنه صاحبُ رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ في رحلة الهجرة، حتى قالت عائشة: (فوالله ما شعرتُ قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يومئذ يبكي)!! ولمَ لا، وهو في أعْظَمِ صُحْبَة، تِلْكَ الصحبة التِي تُخَفِّفُ عَنْكَ عَنَاءَ الحَيَاة، وتُقَرِّبُكَ مِنَ الله!!
ومن تمامِ الأخذِ بالأسباب مع توفرِ معيةِ الله الحيطةُ والحذرُ والكِتمان، إذ لم يعلمْ أحدٌ بخروج النبي إلا “عليّ” لدورِه في رَدِّ الأمانات، و”أبو بكر” وآله، فلم يطَّلعْ على أسرارِ المسير إلا مَن له دَوْرٌ وَصِلَةٌ ماسة، وقد اطَّلعَ كلُّ فردٍ بقدر العمل المكلف به.
إن دعمَ الله لمن ينصره ليس له حدودٌ أو شكلٌ معين، وليس دعمًا معنويًّا فقط، وهو في نفس الوقت ليس مكافأةً للعاجز الذي تمنى ولم يعمل، بل هو مكافأةٌ لمن لم يترك وسيلةً إلا واتخذها، لمن لم يُفرط في الأخذ بالأسباب، وهو ما نحتاج إليه دائمًا أبدًا. فالانكسار لله عِز، ولغيرِه ذُلّ، وصدق الشاعرُ القديم حين قال:
سَجَدْنَا لِلْقُرودِ رَجاءَ دُنْيا // حَوَتْها دُوننا أيدي القرودِ
فما بَلَّتْ أنامِلَنا بِشيءٍ // رَجَوْناهُ سِوَى ذُلِّ السّجُودِ !!
عزيزي القارئ: أعِد قراءة هذه الآية الكريمة متدبرًا ” إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ” ( التوبة _ 40 ).