مقالات الرأى

جمال رشدي يكتب : من انتصر في حرب إيران وإسرائيل؟

0:00

الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل لم يكن مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل كان اختبارًا شاملًا لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تم التخطيط له منذ عقود داخل الدوائر الصهيونية والغربية. إسرائيل، التي نشأت عام 1948 من رحم مشروع هرتزل الصهيوني، ما زالت تحاول منذ ذلك التاريخ فرض نفسها كقائد لمنطقة الشرق الأوسط، مستندة إلى دعم غربي غير مشروط، ومرتكزة على تفوق عسكري وتقني مصطنع، لكنه هش من الداخل. في المقابل، جاء النظام الإيراني الخوميني، الذي أُعد وجهّز في غرف المخابرات الغربية، ليؤدي دورًا مذهبيًا محددًا ضمن نفس المخطط، يساهم في تفتيت المنطقة طائفيًا ويخلق حالة دائمة من التوتر والفوضى، تمهيدًا لظهور الكيان القائد المزعوم.

لكن جاءت الحرب الأخيرة بين الطرفين لتسقط الأقنعة وتكشف هشاشة ما بُني على أوهام. فالمعركة التي استمرت اثني عشر يومًا، كشفت للعالم أن إسرائيل لا تملك الحد الأدنى من مقومات القيادة الإقليمية. فرار السكان، ارتباك الجبهة الداخلية، وانعدام الثقة في مؤسساتها، كلها كانت مؤشرات صادمة دفعت الغرب للتدخل السريع لوقف الحرب. فقد أدركت واشنطن أن استمرار القتال يعني سقوط الهيبة الكاملة لإسرائيل، بل وتهديد وجودها الرمزي كحليف موثوق في المنطقة.

في المقابل، وبينما تعاني غزة من الجوع والحصار، أظهر المواطن الفلسطيني صمودًا أسطوريًا، بينما كانت الشعوب العربية تهتف بحماس لكل صاروخ إيراني يسقط على الأراضي الإسرائيلية. وليس حبًا في طهران، بل كرهًا لإسرائيل التي لم تستطع رغم كل الحملات النفسية والمذهبية أن تصنع لها حاضنة شعبية في الإقليم. فقد فشل المشروع الذي استمر لعقود في صناعة عدو طائفي وهمي للشعوب، وبقيت إسرائيل هي العدو الأوحد في وجدان الجماهير.

وسط هذا المشهد، وقفت مصر كعادتها صلبة، عاقلة، ومتزنة. لم تنجرف خلف العواطف، ولم تدخل كطرف في الحرب، بل أدارت موقفها بعقل الدولة التاريخية التي تفهم توازنات المنطقة. أثبتت القاهرة، كما أكدت الأحداث، أنها تملك مفاتيح الاستقرار في الشرق الأوسط، وأنها القطب الوحيد القادر على التحدث مع كل الأطراف دون أن تتلوث بالاستقطاب أو التبعية. لقد أصبحت مصر نقطة التوازن الوحيدة في بحر من الفوضى، ووجهة كل العواصم الكبرى حين يحين وقت الحل.

وليس غريبًا أن نُعيد في هذا السياق التذكير بكلمات المفكر البريطاني الشهير “أرنولد توينبي” حين قال: “إن إسرائيل كيان غريب في الجغرافيا والتاريخ، وسيأتي يوم تنكمش فيه حين تعجز عن فرض منطقها بالقوة.” وكذلك ما قاله الرئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1967 عقب احتلال إسرائيل للقدس: “إسرائيل دولة توسعية، ستغرق في وهم قوتها، لكنها لا تستطيع أن تعيش في محيط معادٍ إلى الأبد.” كما حذّر هنري كيسنجر نفسه في مذكراته، حين قال: “إسرائيل مشروع قابل للتراجع حين ينقلب المزاج الدولي والشعبي في الشرق الأوسط.”

وفي النهاية، لم تكن الحرب انتصارًا عسكريًا لأي طرف، بل كانت كشف حساب. الحساب لم يكن بالصواريخ والطائرات، بل بميزان المستقبل. إسرائيل خرجت متهالكة معنويًا، أما إيران فخرجت محاصَرة دوليًا لكنها محمولة على موجة تعاطف شعبي في المنطقة. أما المنتصر الحقيقي، فكانت القاهرة، بصبرها وثباتها وحنكتها، حيث تمكنت من البقاء خارج مربع الاستنزاف، لكنها في قلب معادلة الحل.

ما جرى لم ينهِ مشروع الشرق الأوسط الجديد، لكنه فرض عليه إعادة حسابات جوهرية. لن تكون إسرائيل هي القائد القادم، بل ستكون، في أفضل الأحوال، جزءًا من محور صغير لا يملك القدرة على فرض الإيقاع. والمستقبل، كما يبدو، سيُكتب في القاهرة، أو لن يُكتب أبدًا.

زر الذهاب إلى الأعلى