مختار محود يكتب: هل كان ابن تيمية شيخ الإسلام حقًا؟

حلَّتْ هذا الأسبوع ذكرى وفاة الإمام تقي الدين أبي العباس المعروف بـ”ابن تيمية” الذي عاش بين عامي 1263 -1328 ميلاديًا. يحظى ابن تيمية بنصيب وافر من الاتهامات المُلفقة التي يروجها كارهو الإسلام وخصومه وأعداؤه ومنافقوه، وقديمًا قالوا: “إذا أردت أن تعرف الحق فتتبع سهام العدو”. لو كان ابن تيمية متطرفًا متشددًا مُغاليًا لما اجتمع أكثر من 80 عالمًا رفيع القدر والمقام على أن الرجل يستحق لقب “شيخ الإسلام” عن جدارة واستحقاق. ولو كان ابن تيمية ضعيف القدر والمكانة لما بقيت سيرته خالدة بعد وفاته بأكثر من ثمانية قرون. كان ابن تيمية عالمًا شجاعًا يصدع بكلمة الحق ويواجه خصومه بالحجة والبرهان، أصاب كثيرًا، وربما يكون أخطأ مرات قليلة، وهذا سمتُ المجتهدين دومًا. كان خصومه يواجهونه من ضعفهم وهوانهم وتهافت منطقهم بالكذب والبهتان وتأليب السلطة عليه حتى سُجن مراتٍ عدة. طالما استغل ابن تيمية فترات سجنه في تكثيف العبادة وقراءة القرآن الكريم والتدبر والتأليف.
لو طوينا صفحات الماضي الغابر والماضي القريب بما تحمله من أكاذيب وأباطيل بحق ابن تيمية، فإنَّ بعض البرامج التليفزيونية الموجَّهة ومنصَّات التواصل الاجتماعي تسلمت راية الهجوم على الرجل ولا تزال تعمل على تجريحه وتشويهه وغمزه ولمزه، سواء عن عن جهل أو عن سوء نية. كثيرون يتهمون ابن تيمية بأنه كان يفتي بتكفير وقتل المسلمين بسبب تصرفات لا تستحق التكفير والقتل، وهذا كذب بواح وتدليس صارخ، شهدت به المجامع الفقهية الراسخة طوال القرون والعقود الماضية.
مما يؤكد بطلان الافتراء والبهتان على ابن تيمية، أن أنصاره وأتباعه في العالم اليوم بالملايين وفي مختلف أنحاء العالم وفي ازدياد، ومع ذلك لا وجود لمثل هذا التكفير والقتل في ثقافة هذه الملايين ممن تتبع اجتهادات ابن تيمية ونهل من كتبه وعلومه، وهي متعددة وكثيرة جدًا.
بعيدًا عن غوغائية وعشوائية الهجوم على ابن تيمية عبر الفضاءات المختلفة..فإنَّ هناك كتابات كثيرة ومتعددة أنصفت الرجل وردت إليه اعتباره وأظهرته مفكرًا وفيلسوفًا من طراز فريد قلَّ نظيره وندر شبيهه بين علماء ومفكري الإسلام، وهو ما يُثبت تهافُت حجج المنتقدين والمتطاولين.
في كتابه: “المفكرون المسلمون في مواجهة المنطق اليوناني”..يقول المفكر الإيراني مصطفى طباطبائي: “إنَّ القراء الكرام إذا رجعوا إلى فصل نقد ابن تيمية لمنطق أرسطو في هذا الكتاب سيلاحظون في نقد ابن تيمية عن المنطق جميع آراء ستيوارت مل التي ذكرها قبله بخمسة قرون”. أمَّا المفكر العراقي علي الوردي فذكر في كتابه “منطق ابن خلدون”: “وصل نقد المنطق على يد ابن تيمية إلى القمة”. كذلك قال محمد إقبال: “كان ابن تيمية أول من فنَّد المنطق الأرسطيّ تفنيدًا مُنظمًا في كتابه: نقد المنطق”. وفي كتابه: “مناهج البحث” كتب الدكتور سامي النشار: “ترك ابن تيمية بما كتبه عن المنطق تراثًا علميًا لا يُقدَّر، وقام بمحاولة لا تجد لها شبيهًا في تاريخ العصور الوسطى”. فيما كتب مصطفى عبد الرزاق: “إنَّ الدراسات المنطقية لو سارتْ منذ عهد ابن تيمية على نهجه في النقد بدل الشرح والتعمق؛ لكنا بلغنا بها من الرقي مبلغًا عظيمًا، هذا هو التراث المنطقي التيمي”. تضم قائمة الكتب المنصفة لابن تيمية أيضًا كتاب: “هكذا تحدث ابن تيمية” للدكتور عائض الدوسري، و”ابن تيمية المجتهد بين أحكام الفقهاء وحاجات المجتمع” لعمر فروخ..واترك القوس مفتوحًا. أمَّا شيخ الأزهر الشريف الأسبق الشيخ محمد أبو زهرة فقال عن ابن تيمية تعبيرًا عن منزلته العلمية الرفيعة: “القوانين المصرية في الزواج والوصية والوقف وهي في القانون رقم 25 لسنة 1929 مأخوذة من آراء ابن تيمية، مُقتبسة من اختياراته، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها في قانوني: الوقف والوصية من أقواله، وآراؤه لم تعمل في مصر وحدها، بل في الدول العربية والإسلامية”. صنَّف ابن تيمية أكثر من ثلاث مائة مجلد، وأشهر طلابه: ابن القيم ابن كثير والمقدسي والذهبي والنووي والمزي. كان ابن تيمية متسامحًا مع مخالفيه، يقابل السيئة بالحسنة، ويعفو عمَّن ظلمه وأساء إليه، وليس في تراثه وفتاويه ما يؤسس للتطرف والعنف والإرهاب، كما يتهمه بذلك خصومه ومهاجموه. ويكفي أن الرجل عندما فاضت روحه إلى بارئها شيَّعه نحو مائتي ألف رجل وخمسة عشر ألف امرأة في جنازة مهيبة قل شبيهها!
هذا غيضٌ من فيض عن ابن تيمية المُفترَى عليه، مثل كثير من علماء الإسلام الأكابر المتقدمين والمتأخرين، حيث يجد بعض صغار الفكر والعقل والضمير والوعي والفهم في الهجوم عليهم إرضاءً لنفوسهم الأمَّارة بالسوء والكراهية لكل ما هو إسلامي. لقد حان الوقت للعمل على إنصاف ابن تيمية وأقرانه من علماء الإسلام الثقات مِن كل ما يطالُهم من افتراءات؛ حتى تعلم الناشئة مكانتهم وأقدارهم ولا نتركهم فريسة لغربان وخفافيش وشياطين وأفاعي الجهل يشكلون عقولهم بطريقتهم غير المثُلى. أمَّا إذا كان الرجل قد اجتهد فأخطأ في بعض المسائل، فإن ذلك لا يعيبه ولا ينقص من قدره ولا ينال من علمه، ولكن ينبغي أن يُنظر إلى كل مسألة على حدة، بحسب ظروفها ومقتضيات عصرها وظروف زمانها.