أحمد صلاح يكتب علي باب مصر بنية العقل المصري: سلامة موسى
يفتتح الدكتور رفعت السعيد الفصل الخاص بسلامة موسى في كتابه تاريخ الفكر الاشتراكي في مصر قائلا: ما حيرني إنسان مثل سلامة موسى… فقد قرأ كثيرا وترجم كثيرا… ونشر كثيرا جدا… أفكارا يؤيدها وأفكار لا تزال تختمر في ذهنه. وافكار ينشرها لمجرد انه قرأها ولمجرد عمله كصحفي كان يلزمه بأن يكتب ويكتب باستمرار.
ولكن الدكتور رفعت السعيد نفسه في كتابه بناة مصر الحديثة، وايضا في الفصل الخاص بسلامة موسي، يسبغ علي الرجل سمات الفيلسوف والمفكر والمجدد والمترجم، يصفه بالشجاعة والوعي والعمق الفكري، وليس فقط انه مجرد انسان محير
ولعلني وقعت في الحيرة بدوري فبين الكتابين أكثر من أربعين عاما، ألف “السعيد” الأول في أوائل السبعينيات والثاني بعد سبعة عشر عاما من الألفية الثالثة، فهل أكتشف السعيد في سلامة موسي الجديد؟، أم أن تلك الأمور التي حيرته في البداية قد زالت عنها أستار الحيرة.
الرجل نفسه محير بالفعل، وأقصد هنا سلامة موسي نفسه الذي ولد عام 1887 بإحدي قري محافظة الشرقية، ومنذ البداية خافت عليه والدته من الحسد، فثقبت أذنيه وألبسته قرط وملابس أنثى، مما أثر على تفكيره فيما بعد في مقاومة الجهل والخرافات، والنزوع نحو العقلانية، وفي قريته بدأ حياته الدراسية في كتاب مسيحي وآخر مسلما، فحفظ هنا الترانيم وهنا القرآن، ومنهما الكتابة والقراءة، أليس فعلا كان هذا الرجل محيرا.
في عام 1903 نال الشهادة الابتدائية وسافر الي القاهرة ليلتحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية، التي كانت تحت سطوة الإحتلال الإنجليزي وتعتمد مبدأ السمع والطاعة وكأنها ثكنة عسكرية، فلم يطق سلامة موسي هذا النظام الجامد، وتصادم مع أحد المدرسين، فانتقل إلى المدرسة الخديوية ليقضي فيها ثلاث سنوات مريرة تحدث عنها في كتابه “تربية سلامة موسي” فيقول:
وكانت التلمذة في المدرسة الخديوية فيما بين ١٩٠٣ و١٩٠٧ سلسلة من التعذيب. فكان أحدنا يعاقب طوال العام الدراسي بالحضور يوم الجمعة في المدرسة حتى لا يهنأ بالإجازة الإسبوعية. وكان من العقوبات المألوفة أن يحضر أحدنا في منتصف الساعة السابعة صباحا أي في الظلام مدة الشتاء، ثم لا يترك المدرسة آخر النهار إلا بعد الحبس ساعة أو أكثر. وقد يكون السبب الوحيد لكل هذه العقوبات أن المعلم الإنجليزي قد طلب من التلميذ أن يقعد فوقف، أو يقف فقعد. وقد تكون هذه المخالفة محض التباس لا أكثر. ثم يتأخر المسكين في الحضور في الساعة السادسة والنصف صباحا، فيزداد عقوبة والزيادة تتراكم. وهذا إلى عقوبات أخرى مهينة مثل حرمانه من الغداء إلا برغيف يأكله وهو واقف أمام زملائه.
وكان ناظر المدرسة يدعى شارمان، وكان يتأنق في تعذيبنا. وحدث أن الجمعية الخيرية الإسلامية أرسلت على نفقتها بعض تلاميذها من مدارسها الابتدائية. وكانت تشتري لهم ملابسهم في شكة صفراء واحدة. وكان هؤلاء المساكين يخجلون من هذه الملابس الرخيصة. واشتروا غيرها من الملابس المألوفة، حتى لا يتميزوا بفقرهم أمام زملائهم. ولكن شارمان أصر على أن يلبسوا ملابسهم التي تصمهم بالفقر؛ فلبسوها وكانوا ينزوون منا في خجل.
ولست أشك أنه حين أعلنت الجرائد وفاة شارمان هذا غرقا في أواخر الحرب الكبرى الأولى، عم الفرح جميع القارئين الذين كانوا تلاميذه. وقد يستنكر القارئ هذه العاطفة منا. ولكني أؤكد أن التلمذة في تلك السنين كانت عذابا لا يطاق. وكان للمعلمين الإنجليز لذة في تعذيبنا. وكانت العلاقة بيننا وبين هؤلاء المعلمين خالية من الإحساس البشري، حتى لقد كنا أحيانا نجهل اسم المدرسين طوال العام الدراسي.
وقضيت ثلاث سنوات بالمدرسة الخديوية لا أكاد أعد أسبوعا واحدا فيها هنئت به. ولذلك تخلفت في الدراسة. وكان من أسباب هذا التخلف أيضا أني مرضت بعيني واحتجت إلى إجراء عمليتين لا يزال أثرهما المشوه باقيا. كما أني أعزو إلى عذاب المدرسة هذه العربدة الجنسية الذاتية التي انغمست فيها للترفيه عن نفسي. وإزالة الكمد الذي كانت تحدثه هذه الحياة المدرسية المرهقة “.
ومن الملاحظ ان سلامة موسي قد كره فكرة التعليم الجامد القائم علي الحفظ فقط، وأدرك ما يقوم به الاحتلال الانجليزي في محاولة تخريج مجموعة من الجهال الجدد، فقط لشغل الوظائف الإدارية التي تخدم المملكة البريطانية، وليس لمحاولة تخريج جيل متعلم ينهض بأمته كما كان يخطط محمد علي، فبدأ سلامة موسي في تثقيف نفسه وكانت بدايته مع” المقتطف “التي كان يلتهمها علي حد قوله من الغلاف الي الغلاف، ثم… بدأ في التعرف علي كتابات شبلي شميل وفرح انطوان، ثم احمد لطفي السيد الذي كان له ابلغ الأثر في تكوين فكره، فيقول سلامة موسي عن احمد لطفي السيد:” وفيما بين ١٩٠٧ و١٩١٠ ظهرت قوة جديدة في مصر كان لها أثر آخر في توجيهي النفسي، وكانت هذه القوة أحمد لطفي السيد؛ ففي تلك السنين كانت الوطنية المصرية في طور اليرقة لم تنسلخ بعد إلى الجسم الحي الكامل. وكانت عرضة لأخطار شتى وتطوحات مختلفة. وحسب القارئ أن يعرف أن كلمة «وطنية» ليست عربية وأننا إنما سككنا هذه الكلمة كي نعبر بها عن وجدان جديد؛ ذلك أن مصر في بداية هذا القرن كانت لا تزال في أسر الماضي. وكانت الدولة «العثمانية» هي دولتنا التي كنا نكافح بها الإمبراطورية البريطانية. وكان بيننا متنبهون تعلموا في المدارس الفرنسية أو نبهتهم الحوادث وأيقظت فيهم وجدانا وطنيا، فلم يكونوا يسيغون منطق اللواء والمؤيد في الدفاع عن استقلال مصر بحق الأتراك في سيادتها. وكان الأقباط ينفرون من هذه الوطنية العثمانية نفورا عظيما.
وظهر لطفي السيد في الجرائد يدافع عن هذه البديهية الواضحة، وهي أن مصر يجب أن يملكها المصريون دون الأتراك ودون الإنجليز. ووجد في الأول مصادمة قوية من الكتاب الذين ألفوا الدعاية للأتراك ولكن سرعان ما انتصر وظفر بالرأي العام في مصر. ووجد الأقباط منطقا في هذه الوطنية كما وجد المثقفون فيها أملا جديدا يعبئ الأمة للإصلاح والتجديد فأقبلوا على الجريدة وشغفوا بمقالات لطفي السيد فيها.