مقالات الرأى

عبدالناصر أبو بكر يكتب : أيام الزَّمن الجميل

نعرف أخبار الأزمنة الغابرة من خلال القراءة في صحائفها, والوقوف على أطلالها بالنّاقة وبالجواد, وتلك معرفة ظنّية.. لا تصل إلى اليقين, وخصوصاً تلك الأزمنة التي سبقت التوثيق المسموع والمرئي قبل البث الإذاعي والتلفزة, ونعرف ثقافة العقود القليلة الماضية من خلال ما تركوه موثَّقا في وسائل الاتصال معرفة تقترب من اليقين, ولكنَّنا لا نطلق الآهات من أعماق الصدور إلا على أزمنةٍ جايلناها بالفعل, وتركت بصمتها على الأسماع والأبصار, وكُنَّا مشاركين في صناعة أحداثها الرائعة أو المؤلمة, وهذا هو مربط الفرس في كل ما نطرحه من ذكريات تداعب الفكر عند الخلوة مع النَّفس.. بعيداً عن ضجيج الحياة, وظُلم ذوي القُربى, ومجالس السُّفهاء من الناس, وخوض الحروب الطّاحنة من أجل لُقمة العيش.
لا شكَّ أنَّ العقود التي سبقت دخول الكهرباء في أحشاء القُرى كانت جميلة رغم المعاناة, فالإنسان في تلك الحقبة كان نقياً على الأقل, والبركة كانت في الأرزاق وفي العافية, وروح الفريق كانت في كل حارة, والدّفء كان في كل درب, وحبل الأرحام كان موصولا ومفتولا وعصيّاً على التمزيق والتقطيع والتّشرذم, واحترام الكبير كان عُرفاً ملزما, وجبر الخاطر كان ديناً وعقيدة.
من يُصدِّق أنَّ المرأة في حضرة الرجال كانت تجلس على الأرض, ولا تعتلي الأريكة أبداً.. حتى وإنْ كانوا من ذوي القُربى, ومن يتخيل أنَّ اسم المرأة كان مُقدّساً, وإذا نطق به سفيه في الحارة أقيم عليه الحدُّ في خيام الجمع, وعلى رؤوس الأشهاد, ومن يتخيل أيضاً أنَّ العريس كان لا يتمكَّن من رؤية عروسه إلا ليلة الزّفاف, وأنَّ رجلاً واحداً من رجال الحارة كفيل بفضِّ أعتى المنازعات بكلمة حازمة حاسمة, أو بضربة عصا على رأس المارق الموتور دون أي اعتراض من أطراف النِّزاع, وأنَّ قِدرة الطبيخ في بيت من بيوت الحارة كانت تدور على كل البيوت, وأن السّمن البلدي واللبن والطيور والبيض والحبوب وكل ما نراه الآن أثراً بعد عين كان متاحاً لفقراء القرية قبل أغنيائها.. تطبيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي, وإيماناً بالاشتراكية قبل أن ينادي بها أصحاب الدعاوى الباطلة, كل ذلك كان قائماً على أصوله في القُرى التي رضعنا من صدورها, وتربينا على مناهجها وتعاليمها, وآمنا بأعرافها وقيمها وعاداتها وتقاليدها في تلك الأيام التي كانت تسير البركة في ركابها.
تلك كانت حياة القرية الهادئة الهانئة دون قلقٍ أو ضجيج, وذلك هو الإرث المُعتّق الذي نتنفّسه ليل نهار, ولا ننكر أبداً ما كان يقابل تلك الحقبة في عاصمة أم الدّنيا من الفنون والآداب والتلاوة الرائعة لكبار القُرّاء, فذلك أيضاً ساهم في تشكيل ثقافتنا, وفي زيادة وعينا, وتوسيع مداركنا, وتهذيب وجداننا, فالتاريخ يقف انتباهاً لتلك الحقبة التي أبدع فيها أهل القرآن ومنتجو الأدب والفن بمختلف ضروبه, ولا أظُنُّ ذلك الزّخم سيتكرر في ما بقي من عُمر الدُّنيا, والتأثير علينا كان من خلال الصحف والإذاعة والأعمال المتلفزة بالطّبع, وما كان ذلك بوسع كل سُكّان القُرى, فالسّواد الأعظم من الناس في الأرياف كان لا يقرأ ولا يكتب, والأمّية كانت تحجب عنهم نور الإبداع بشكل أو بآخر, ولكنَّهم تأثروا بالإبداع في التلاوة على أقل تقدير, وردّدوا بعض الأغنيات الدّينية والوطنية خلف محراث البقر, وحول السّواقي, وفي ساحات الحصاد, وانفرد البنات بسماع الأغنيات العاطفية, وردّدوها على استحياء في جلسات السّمر البعيدة عن أسماع الرِّجال.
للحقبة الناصرية ما لها وما عليها, ولكنَّ الإنصاف يُحتِّم علينا أن نقول عن تلك الحقبة ما يرضي الضمائر على الأقل, فأعظم منظومة علاجية للفقراء ممثلة في الوحدات الصّحّية كانت في تلك الحقبة, وأكبر القلاع الصناعية شُيدت في ذلك العهد, وأجمل الإبداعات الأدبية والفنية كانت في ذلك الزمن امتداداً لجيل ثورة 1919م, وحتى على مستوى الدّعم التمويني لغذاء الناس والدّواب والأراضي الزّراعية كان العطاء ممدودا, والخير وفيرا, وليس ذلك من كلام الذي يهرف بما لا يعرف.. فقد رأينا ذلك رأي العين, وكُنّا عليه من الشاهدين, وحملنا بأنفسنا شوال الدقيق الذي يزن مائة كيلو جراما على ظهور الحمير, وصرفنا الحصّة التموينية في منتصف الشَّهر وفي آخره, وارتدينا الملابس القُطنية التي كانت تُصرف مع السِّلع التموينية, وحاولنا الهرب من الرائدات الريفيات القادمات من الشمال وهنَّ يطرقن أبواب البيوت بحثاً عن طفلٍ يرغب في الالتحاق بروضة الأطفال في المراكز الاجتماعية.. التي كانت تسير في خطٍّ موازٍ للخدمات التي تقدّمها الوحدات الصحية آنذاك.
لنا أن نترحّم على ذلك الزَّمن الجميل, ونرى كل إبداعات القرن الواحد والعشرين من الآداب والفنون تافهة, وللأجيال الجديدة أنْ تسخر من قناعاتنا, وتنفر من أذواقنا, فصراع الأجيال حقيقة, وهو من لُطف الله بالنّاس حتى لا يتشبّث الكبار بالدِّنيا في نهايات العُمر.
( 2 )
في مداخلة للصديق الأستاذ / مراد محمد حسن.. تعليقاً على القراءة السَّابقة في كتاب الزَّمن الجميل.. الذي يتناول حياة القرية في العقود التي سبقت دخول الكهرباء في دروبها وحواريها يشير إلى أنَّ المدينة أيضاً كانت تعيش زمناً جميلاً في تلك الحقبة وما قبلها, وأنَّ الإنسان هو الإنسان سواءً كان من قاطني القرى أو من الذين أوجدهم الله في عواصم المُدن الصغيرة والكبيرة, وأنَّ أظفار العولمة النّاشبة في لحوم أهل المدينة كانت من أسباب المَسخ والتَّشوية لكل ما هو جميل, والحقيقة هي كما قال الرَّجل, وما كان حديثي عن أيام القرية إلا لكوني من القاطنين في دروبها الضّيّقة طوال حياتي, وأهل مكّة أعرف بشعابها, ولن يستطيع ابن المدينة الذي لم يذق طعم الهدوء والسّكينة والليالي القمرية أنْ يكتشف تلك الكنوز المخبَّأة في البيوت الطّينية القديمة, وفي الحقول التي يقف الشَّادوف لها وِقفة الجُندي الحارس لحدود بلاده, وتُغنّي لها السَّواقي بصوتها الحزين المجروح, ويضبط سلوك الناس فيها دستور العادات والتقاليد, والقيم النبيلة, والأعراف المُلزمة.
لا شكَّ أنَّ المدينة كانت تعيشُ زمناً جميلاً كالقرية تماماً في تلك الأيام .. وخصوصاً مدينة القاهرة التي كانت تُغسل شوارعها بالصَّابون وماء الورد كل صباح ومساء, وكانت تموج بالأساتذة في كل ضروب المعرفة, وبالمهارات الفائقة في كل صنعة, فماسح الأحذية على سبيل المثال في تلك الأيام كان فناناً في صنعته, وإنسان المدينة أياً كانت ثقافته كان رائعاً في الذود عن الفضيلة, وفي مراعاة حقوق الجوار, وفي التكافل المجتمعي, وفي الدِّفاع المُستميت عن بنت الجيران.
عرفنا سلوكيات مجتمع المدينة من خلال الزيارات القليلة للأقارب هناك, ومن خلال الذين سبقونا إليها أثناء رحلة التعليم الجامعي من أبناء القرية, ومن خلال الأعمال الدِّرامية لأسامة انور عكاشة, ومحمد جلال عبد القوي, ومن خلال كتابات نجيب محفوظ عن الحارة في المرحلة الواقعية من إبداعاته التي تحوَّلت إلى أعمال سينمائية رائعة, والتَّشابك والتَّرابط بين إنسان القرية وإنسان المدينة لا يمكن أنْ تنفصم عُراه, فمعظم سُكان المدينة كانوا نازحين من الأرياف, وقد حملوا أخلاق القرية مع أمتعتهم عند الرَّحيل, والإنسان هو الإنسان.
ثمَّة اختلافات في الثقافات كانت واضحة وضوح الشمس في الظهيرة بين هؤلاء وهؤلاء, وذلك التَّباين كانت تفرضه ظروف الحياة المادّية, والمسافات الطويلة بين القرى الجنوبية وعاصمة الدّولة, وعدم التَّكافؤ في الفُرص في كل مناحي الحياة, ولا أذيع سِرَّاً عندما أقول إنَّ الصعيد كان مهمّشاً عن عمدٍ من سبق الإصرار, وما زال يعاني من ذلك التهميش والازدراء, وقطع حبال المودّة.. على الرَّغم مما نراه من مشاريع تحاول في هذه الأيام دعم البنية التَّحتية للقرى الفقيرة الصَّابرة المُحتسبة.
ترك ذلك التهميش في نفوس الجنوبيين جرحاً غائراً, وفرض عليهم الانزواء والخجل من التعبير عن المشاعر, ورُبّما ساعدت العادات القديمة لأهل القُرى في اتساع الجُرح أيضاً, فمن يتخيّل أنَّ القدرة على الكلام في حضرة الناس كانت تستدعي الخجل, وتصبُّب العَرَق, ولذلك تجد إنسان المدينة يتحدث بطلاقة, ويُعبر عن شعوره بكامل حريته, بينما يقف إنسان القرية عاجزاً عن محاكات ابن المدينة في ذلك الشأن حتى الآن, فإذا تكلّم شعر وكأنه يقف عارياً في ميدانٍ عام.
لا شكَّ أنَّ الإنسان هو الإنسان, ولكنَّ التَّشكيل يختلف باختلاف التَّربية, وبالتَّباين بين المُعطيات المُتاحة على المستوى المادّي والمعنوي, وعلى الرّغم من ذلك سيظل إناء الزَّمن الجميل ينضح بما فيه, وستظلُّ طائفة من الناس قابضة على جمر الحق والخير والعدل والجمال .. سواءً في القرية, أو في المدينة.

زر الذهاب إلى الأعلى