مقالات الرأى

ضاحى عثمان يكتب : دع الكراهية .. وابدأ الحب

الخير في الحياة مضمون.. لكن لا يعلمه إلا الله
لكن لو صبرنا قليلاً .. لتجلَّى لنا واضحاً كالشمس

يا صاحبي..
إن البُعد عن الكراهية.. ثروة عظيمة.
يمكن للمرء أن يحققها لنفسه في حياته.
ويمكن لنا أن نجني ثمارها في حياتنا.. أو نتركها ذخراً فيما بعد.
ليس لأولادنا فقط.. بل لأحفادنا.. وإلى أن يشاء الله تعالى.
وهذه حقيقة.. وردت في سورة الكهف بالقرآن الكريم.
في حكاية الأيتام.. التي جاءت في صحبة نبي الله “سيدنا موسى”.
مع العبد الصالح “الخضر”.. الذي كشف لنا عن أعاجيب مذهلة.
كلها تؤكد لنا.. إنَّ الخير مضمون.. مهما بدا لنا في ظاهره شيء من السوء.
لأنَّه لا يعلمه إلا الله.. ولو انتظرنا بعض الوقت.. لتجلَّى لنا واضحاً كالشمس.
ولكن.. نقع في طبيعتنا البشرية فنتعجَّل الأمور.. ونخاف مما يجري حولنا.
وقد نبكي كثيراً من آلام شيء نراه ضرراً لنا.. ثمَّ تمرّ الأيام لنجد فيه الخير الجزيل.
وكثيراً ما نقول لأنفسنا صبراً.. وما الصبر إلا من عند الله.
وبالفعل.. قد نصبر لكن سرعان ما تعود العجلة إلى أنفسنا.. ولا نتعلَّم.
علماً.. بأن الصبر يورِّث التقوى.. والتقوى تورِّث كل شيء جميل من خصال النفس.
وأول هذه الخصال الجميلة التي نتمنَّاها لأنفسنا جميعاً.. أن نتمتَّع بفضيلة:
الأمانة.. والأمانة من الإيمان.. فلا غش ولا خداع.
ولا كذب ولا تحايل.. ولا لف ولا دوران.
فمن يتمتَّع بذلك فهنيئاً له.. ومن تتمتَّع بذلك فهنيئاً لها.. فقد أثمرت فضائل الخير العميم.
قد يكون هذا الخير في حياة صاحبها.. وهذا ليس شرطاً.. فقد يبقى الخير لولد الولد.
وهذا ما حدث لأمير المؤمنين.. الخليفة الرَّاشد: عمر بن الخطَّاب شخصياً.
لنعلم أن الأمانة شيء عظيم.
لأن الغش كأنَّه خصلة أصيلة في البشرية.. منذ البدء.
ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.. وذلك من خلال القصة التالية:
قصة بائعة اللبن.!
كان عدد من بائعى اللبن في صدر الإسلام.. يتقنون الغش.
وكان هؤلاء يخلطون اللبن بالماء.. سعياً وراء الكسب الوفير.
فاشتكى المسلمون الأوائل من ذلك.
فأرسل الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد رجاله.
ينادى فى بائعى اللبن بعدم الغش.. فدخل المنادى إلى السوق ونادي:
يا بائعى اللبن.. لا تَشُوبوا ـ أي لا تخلطوا ـ اللبن بالماء.. فتغُشّوا المسلمين.
وإن من يفعل ذلك.. فسوف يعاقبه أمير المؤمنين عقاباً شديداً.
وذات ليلة.. خرج عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه مع خادمه “أسلم”.
ليتفقد أحوال المسلمين في جوف الليل.. كعادته في رعاية رعاياه بالمدينة المنوَّرة.
وبعد أن أجهده السير قرَّر وهو فى أحد الطرق.. أن يستريح قليلاً من التجوال.
فجلس هو خادمه بجانب جدار أحد البيوت.. فإذا به يسمع صوت امرأة.. تقول لابنتها:
قومى إلى ذلك اللبن فامذقيه ـ أي أخلطيه ـ بالماء.. فجاءه صوت الابنة وهي تقول:
يا أُمَّتَاه.. أما علمتِ..؟!
أما علمتِ.. ما كان من عَزْمَة ـ أي أمر ـ أمير المؤمنين اليوم..؟! فجاءه صوت الأم وهي تقول :
وما كان من عزمته ـ أمره ـ ؟!.. قالت الابنة:
إنَّه أمر منادياً.. فنادي:
لا يُشَابُ ـ أي لا يُخلط ـ اللبن بالماء.. فقالت الأم:
يا بنتاه.. قومى إلى اللبن فامْذقيه بالماء.
فإنَّك في موضع لا يراك فيه عمر.. ولا منادى عمر.. فقالت الصبيَّة:
واللَّه.. ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء.
إن كان عمر أمير المؤمنين لا يرانا.. فربّ أمير المؤمنين يرانا.
فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك.. أعجب بالفتاة لورعها.
ومراقبتها لله رب العالمين فأشار إلى أسلم.. وقال:
يا أسلم.. علِّم الباب ـ أي ضع عليه علامة ـ واعرف الموضع.
ثم مضي.. فلما أصبح.. قال :
يا أسلم.. أمضِ إلى الموضع فانظر من القائلة..؟!
وانظر من المقول لها..؟!.. وهل لهما من بعل ـ زوج ـ .؟!
وها هو الفاروق.. أعلن حالة الطوارئ.
وطلب معلومات تفصيلية عن هذه العائلة.
وسأل خصيصاً عن هذه الثمرة اليانعة والشجرة اليافعة.
تلك البنت الصالحة.. التي أوقفت عملية غش اللبن.
واحتفظت بقيَمها.. وقاومت كل الإغراءات ولم تقدم أي تنازلات.
فأطاع أسلم.. ذهب إلى المكان للحصول على المعلومات.
فوجد امرأة عجوزاً.. وابنتها أم عمارة.
وعلم أن ليس لهما رجل.. ثم عاد أسلم فأخبر عمر.
عاد عمر إلى بيته في هذا اليوم.
وهو مشغول العقل والقلب بهذه الفتاه.
ثـمَّ دعا عمر أولاده ليجتمعوا حوله.. فقال لهم:
هل فيكم من يحتاج إلى امرأة لأزوِّجه..؟!
ولو كان بأبيكم حَركة إلى النساء.
ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية..؟!.. فقال عبد اللَّه بن عمر:
لى زوجة.. وقال أخوه عبد الرحمن :
لى زوجة.. وقال ثالثهما عاصم :
يا أبتاه لا زوجة لى فزوِّجني.
هنا.. قرَّر الذهاب إليهم.. ولكن ليس معاتباً.. أو محاسباً على ذلك الموقف.
بل خاطباً تلك البنت لإبنه عاصم.
فلقد توسم عمر ببعد نظره.. وحذاقة فكره.
وسلامة مقصده بهذا الزواج خيراً.
وفعلاً كان نتاج ذلك الزواج بعد زمن ليس ببعيد.
ومن نسل تلك المرأة الصالحة بائعة الحليب.
جاء مجدِّد القرن الأول وخامس الخلفاء الراشدين.
وبدلاً من أن يعدل الناس في بيع الحليب فقط.
انتشر العدل والخير والبركة والأمن.
والآمان والتسامح والحب في أنحاء المعمورة.
وفاض بيت المال في عهده ولم يجد التجار من يأخذ الزكاة.
فقد اغتنى الناس أجمعين.. وكانت مرحلة ذهبية عم فيها الخير على الجميع.
بفضل سلامة القصد.. وحسن السلوك.. وطيب الخلق وقوة العدل.
وهيبة الإنصاف.. وقيمة الحق.. وتمكين الدين.
إنَّها أم عمارة بنت سفيان بن عبد اللَّه بن ربيعة الثقفي.
التي خَلَّدت اسمَها فى أنصع صفحات التاريخ البشري.
بخصالها الجميلة.. بأمانتها.. وخوفها من اللَّه تعالى.
الذي يعلم سبحانه خائنة الأعين.. وما تخفى الصدور.
والذى أكرمها فى الدنيا بزواجها من ابن أمير المؤمنين عمر.
وجعل من نسلها أميراً للمؤمنين.. تقياً ورعاً.. أشبه بجدِّه الأول.
إنَّه.. هو: عمر بن عبد العزيز.. الخليفة الراشد الخامس رضي اللَّه عنه.
هكذا ..
الأمانة كنز لصاحبها.. الآن.. وبعد الآن.. وإلى ولد الولد كما يقول المثل.
فيا صاحبي..
تمسَّك بخصال الخير.. لأن فيها كل الخير.. الآن.. وبعد الآن.
ويبقى ذخراً لك مهما طال بك العهد.. أو مضى الزمان.
فكن كالنخيل العالي.. يرمونه الناس بالحجاره فيأتيهم بأفضل الثمار.
ودع الكراهية.. وابدأ بالحب.. ولا تلتفت إلى ضغائن الناس.
وارتفع للعنان.. لتسمو بنفسك كشجرة النخيل.. رمز الكلمة الطيِّبة.

زر الذهاب إلى الأعلى