مقالات الرأى

د. سالي جاد تكتب: “عفن الدماغ” والجيل الجديد .. من اللعنة الرقمية إلى فرصة لصناعة وعي وإلهام

0:00

كنت وما زلت على يقين بأن كل عصر يحمل في طياته تحدياته الخاصة، وإن كان التليفزيون قد أثار قلق الأجيال السابقة، فإن الجيل الحالي يواجه ظاهرة جديدة يُطلق عليها شعبياً “عفن الدماغ”. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح لا يُعد توصيفاً علمياً دقيقاً، إلا أنه يعكس قلقاً مشروعاً حول التأثيرات السلبية للتعرض المفرط للمحتوى الرقمي السريع، المجزأ، والسطحي.

هذه الظاهرة تشير إلى تراجع القدرة على التركيز، ضعف التفكير النقدي، والاعتماد على المعلومة السهلة التي لا تتطلب جهداً ذهنياً، خاصة لدى الجيل الذي نشأ في بيئة رقمية غامرة، مثل جيل الألفا وجيل الجان زي. إنها حالة من الاستسلام العقلي في ظل فيض متواصل من الترفيه اللحظي الذي يُضعف المهارات المعرفية ويهمّش التفكير المتأني.

لكن السؤال الذي توقفت أمامه طويلاً هو: هل يمكن للأدوات ذاتها التي تُتّهم بأنها مصدر الخطر، أن تكون هي ذاتها جسراً نحو الإنقاذ؟

في تقديري الشخصي، الجواب هو نعم، وبكل ثقة. فالأدوات الرقمية، سواء كانت منصات تواصل اجتماعي أو تطبيقات محتوى أو محركات بحث، ليست شراً في ذاتها. بل على العكس، هي أدوات قوية تحمل إمكانات هائلة. إنما الخطر يكمن في طريقة استخدامها.

لذا، ما نحتاجه هو إعادة توجيه هذه الأدوات. بدلاً من أن تكون وسائل للتشتيت، يمكنها أن تتحول إلى وسائل للإلهام والتحفيز وصقل الطاقات الكامنة. علينا أن نعيد تعريف دور الإعلام الرقمي ليكون منصة للتنمية والتعبير والوعي، لا مجرد قناة لتصريف الوقت.

ولتحقيق هذا التحول، لا بد من اتباع نهج متكامل يضم عدة محاور:

تقديم محتوى مُلهم وهادف: لا بد من التركيز على قصص النجاح الواقعية، والنماذج الإيجابية، والمحتوى التعليمي المبتكر، الذي يبسط المفاهيم المعقدة بأسلوب جذاب ويحفز على التفكير والعمل.

بناء مجتمعات رقمية داعمة: إنشاء مساحات رقمية تفاعلية تسمح للشباب بالتواصل حول اهتماماتهم، وتبادل الخبرات، وبناء شبكات معرفية تدفعهم نحو النمو المشترك.

تشجيع الإبداع والمشاركة: تحويل الشباب من مستهلكين سلبيين إلى منتجين نشطين للمحتوى، بما يعزز من مهاراتهم الرقمية، وقدراتهم على التعبير، وتفكيرهم النقدي.

تعليم الوعي الرقمي: تمكين الشباب من الأدوات اللازمة لتقييم المحتوى بوعي، وفهم خوارزميات المنصات الرقمية، والتمييز بين المعلومة الموثوقة والمضللة، بما يحمي صحتهم الذهنية ويعزز استقلالهم الفكري.

توجيه الطاقات وربط الشغف بالفرص: يجب أن نساعدهم على استثمار اهتماماتهم في فرص تعليمية، ومهنية، وتطوعية، وإبداعية، باستخدام الفضاء الرقمي كوسيلة للوصول لا كغاية في ذاته.

نحن لسنا بحاجة إلى حرمان الشباب من التكنولوجيا، بل إلى تعليمهم كيف يسخّرونها بذكاء، ويستخدمونها كأداة للتطور الشخصي والإنتاجية. إن تحويل “عفن الدماغ” إلى “إثمار ذهني” ليس حلماً، بل مشروع ممكن، إذا ما توفر له الوعي والرؤية والإرادة.

ختاماً، إن الفضاء الرقمي، بكل ما يحمله من فوضى وتشويش، يمكن أن يتحول إلى حضن دافئ للابتكار والنمو، إذا أعدنا تشكيله بوعي، ووجهناه نحو بناء عقول شابة، ناضجة، حرة، وفاعلة.

زر الذهاب إلى الأعلى