حازم البهواشي يكتب: في وداع رمضان… يا هالل بفرحة ومفارق بفرحة

أبدع الشاعر “عبد الفتاح مصطفى” (1924م _ 1984م) في رائعته (تم البدر بدري، والأيام بتجري، والله لسه بدري والله يا شهر الصيام)، التي لحنها “عبد العظيم محمد” (1923م _ 2008م)، وغنتها “شريفة فاضل” (1938م _ 2023م)، ولك أن تتأمل في كلمات “عبد الفتاح مصطفى” هذه المعاني: (يا ضيف وقته غالي وخطوة عزيزة / حبك حب عالي في الروح والغريزة / أيامك قليلة والشوق مش قليل / والغيبة طويلة ع الصبر الجميل) إلى أن يقول: (وتسيب يوم وداعك فوق الأرض عيد / يا هالِل بفرحة ومفارق بفرحة)!!
وها هو شهر رمضان يوشك على الرحيل، وهو الشهر الذي تكون له فرحةٌ عند كل مَن يحب التجارةَ مع الله، إذ يجده فرصةً لزيادة الأرباح بصورةٍ لا تُحقق الغنى فقط بل الثراءَ حين تكون العُملةُ هي الحسناتِ وليست الدولارات أو الجنيهات!! فمَن مِنا ربِح بيعُه؟! ومَن مِنا يحتاج إلى إعادة النظر في تجارته؛ إذ لم يُحقق المكسبَ المطلوب، أو ربما خابَ وخسر لأنه أدرك رمضانَ ولم يُغفر له؟!!
في رمضان، مِنا من ظلمَ نفسَه فلم يصم إلا عن الطعام والشراب، وهذا كان حظه الجوع والعطش!! ومنا من صان نفسه وحفِظ صومه، فصام لسانُه وسمعُه وبصرُه عن الحرام والقبيح، ومنا من وصل إلى مرتبة الإحسان فعبدَ اللهَ حق عبادته، فصان صومَه عن كل ما يشوبه، وجعله خالصًا لرب العالمين.
إذا كنتَ ممن فاز في هذا الشهر، فاحذر أن تخسر بعده ما حققتَ من مكاسب!! وكما استقبلنا الشهر المبارك بالطاعة، فلنودعه بالطاعة. عن “الحسن” قال: (إن الله جعل شهر رمضانَ مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجبُ من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون).
وروي أن “عمر بن عبد العزيز” خرج في يوم عيد فطر فقال في خُطبته: (أيها الناس، إنكم صمتم لله ثلاثين يومًا وقمتم ثلاثين ليلة وخرجتُم اليوم تطلبون من الله أن يتقبل منكم).
إذا كان رمضان شهرَ القرآن، فلنستمر في قراءة القرآن، يقول عمرو بن العاص: (كل آيةٍ في القرآن درجةٌ في الجنة ومِصباحٌ في بيوتكم)، وإذا كان شهرَ القيام فلنستمر في قيام الليل، وفي الحديث يقول سيدنا جبريل لسيدنا رسول الله: (واعلمْ أن شرفَ المؤمن قيامُه بالليل)، ولنستمر في أداء كل طاعةٍ التزمنا بها في رمضان من قولٍ أو فعل.
عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: (سُئل النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل). ولما سُئلت (هلْ كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْتَصُّ مِنَ الأيَّامِ شيئًا؟ قالَتْ: لَا، كانَ عَمَلُهُ دِيمَةً)، وأصل الديمة المطرُ المنساب في سكون ورِقَّة الذي يستمر ويدوم أيامًا ولا يُغرق أو يُضر، وصار يُطلق بعد ذلك على كل ما يدوم ويستمر. وقد كان من هدي النبي _ صلى الله عليه وسلم _ أنه إذا عمِل عملًا أثبته، وكان إذا مرِض أو منعه شيءٌ عن وِرده قضاه من النهار. وكان يقول كما روى مسلم عن عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ: (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شَىءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ؛ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ)، ليُرغبَ الناسَ ألا يتركوا أورادهم، ويَحُثَّهم على أن يداوموا على أعمالهم.
قال ابنُ الجوزي: (عبادَ الله، إن شهرَ رمضانَ قد عزمَ على الرحيل، ولم يبقَ منه إلا القليل، فمَن منكم أحسنَ فيه فعليه التمام، ومنْ فَرَّط فليختمه بالحُسنى، والعملُ بالخِتام، فاستغنِموا منه ما بقي من الليالي اليسيرةِ والأيام، واستودعُوه عملًا صالحًا يَشهد لكم به عند المَلِك العلاّم، وودِّعوه عند فِراقِه بأزكى تحيةٍ وسلام).