حازم البهواشي يكتب: بين يدي حَجة الوداع

في العام التالي لفتح مكة التي فتحها رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ في العام الثامن للهجرة، بعث النبي “أبا بكر” أميرًا على الحج، وبعد خروجه قاصدًا مكة، نزل الوحي بسورة براءة (التوبة)، فأرسل رسولُ الله سيدنا “علي بن أبي طالب” بالآيات ليقرأها على أهل موسم الحج كافة.
انتبهْ إلى إرسالِه (عليًّا) دون غيره، وهو أيضًا من وُكِلَ إليه عند الهجرة ردُّ الأمانات إلى أهلها!! بما يعني أن الأقاربَ لا بد أن يتحملوا عن بعضهم البعض في المُلِمَّاتِ والشدائد والأمور الجِسام.
سُئِلَ عليّ: بأي شيء بُعثتَ في الحجة؟ قال: بُعثتُ بأربع: لا يدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مؤمنة _ ولا يَطوفُ بالبيت عُريان _ ولا يجتمعُ مُسلمٌ وكافرٌ في المسجد الحرام بعد عامه هذا (لا يحج بعد العام مشرك) _ ومَن كان بينه وبين النبي عهد فعهدُه إلى مُدَّتِه، ومَن لم يكن له عهد فأَجَلُه إلى أربعة أشهر.
إن الرسالة المحمدية مرتْ بكثيرٍ من المحن والفتن حتى وصلتْ إلى هذه اللحظة، هذه المِحَن كشفتْ عن صدقها وسلامةِ جوهرها، الذي هو التوحيدُ الخالص والبراءةُ من الشرك، وإصلاحُ الحياة ونشرُ الطمأنينةِ بين الناس، يقول “ابن تيميّة” (661هـ _ 728هـ): “ومن تدبرَ أحوالَ العالَم، وجدَ كلَّ صلاحٍ في الأرض فسببُه توحيدُ الله وعبادتُه وطاعةُ رسولِه _ صلى الله عليه وسلم _ وكلَّ شرٍ في العالَم وفتنةٍ وبلاءٍ وقحطٍ وتسليطِ عدو وغير ذلك، فسببُه مخالفةُ الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ والدعوةُ إلى غير الله، ومن تدبَّرَ هذا حقَّ التدبر، وجد هذا الأمرَ كذلك”. (مجموع الفتاوى).
لقد أصبحَ للإسلام دولةٌ وشأن، وهو الدين القائمُ على حريةِ المعتقد ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ… ” ( البقرة _ 256 ) بما يعني الأمنَ للجميع، لذا فإن مطاردةَ الوثنية التي حاربتْ هذه الحرية هو أمرٌ طبيعي، ” وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ” ( التوبة _ 3 ).
لقد بدأ الإسلامُ برجل واحد، ثم بأنصارٍ قلائل، يقول الشيخ “محمد الغزالي” (1917م _ 1996م): “ونحن نعلم أن الحزبَ الذي يبدأ نشاطَه بأنصارٍ قلائلَ، يتضاعفُ الإقبالُ عليه عندما تلمعُ له وقفاتٌ مُشَرِّفَة، ويُتاحُ له نصرٌ كبير، فكيف إذا اختفى خصومُه، وتألقتْ نجومُه؟!”.
لقد كانت هذه مقدماتٍ لا بد منها قبل عامٍ من حَجة الوداع في العام العاشر للهجرة، ليكون الحجُّ هذه المرة مغايرًا لما ألفه العرب، فلأول مرة يُحظر على المشركين دخولُ المسجد الحرام، ولأول مرة يكون الحج خالصًا لأبناء كلمة التوحيد، ولعل هذا مما شرحَ صدرَ النبي ليخطبَ في الناس وقد شعر بدُنُوِّ أجَلِه منذ ابتعث “معاذ بن جبل” إلى أهل اليمن: (يا معاذ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرَّ بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ خَشِعًا لفراق رسول الله. ثم التفت النبيُّ بوجهه نحو المدينة فقال: إن أولى الناس بي المتقون، مَن كانوا وحيث كانوا).
إنه تجمعٌ كريم وصل فيه عددُ الموحدين إلى أكثرَ من مائة ألف، وكأن النبيَّ يتذكر كيف كانوا قلةً في دار الأرقم وأصبحوا الآن ملء السمع والبصر!! فكان لا بد من الوصية التي “تبدد آخرَ ما أبقت الجاهليةُ من مخلفاتٍ في النفوس” على حد تعبير الشيخ “محمد الغزالي”، وتؤكد ما يحرص الإسلامُ على إشاعته من آدابٍ وعلائقَ وأحكام، فيؤكد النبي في الخطبة على حرمة الدماء والأموال، وضرورة أداء الأمانة، ووضع الربا، والتحذير من الشيطان على ديننا، وأنه إن كان لن يُعبدَ فإنه رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك “مما تحقرون من أعمالكم”، وكانت الوصية بالنساء ما لهن وما عليهن، والوصية بكتاب الله وسُنة رسوله حتى لا نضل، والتحذير من أن يأخذ أحدُنا من الآخر شيئًا بغير طيب نفس: (اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمون أن كل مسلم أخٌ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيه إلا ما أعطاه عن طِيب نفسٍ منه فلا تظلمُنَّ أنفسَكم، اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله: اللهم اشهد).
ونحن نشهدُ يا رسولَ الله أن ابتعادَنا عن منهجِك ورسالتِك هو سببُ هواننا، وأن دخولَ الدنيا قلوبَنا هو سببُ الضعف الذي نعيشه والذلِّ الذي نحيا فيه!! وطريقُ الخلاص واضح، لكنه مكلف؛ إذ لا شيء دون ثمن وجهدٍ وعرَقٍ وتعب “… إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ… ” (الرعد _ 11).