مختار محمود يكتب: الدكتور لبيب السعيد

في الساعة السادسة من صباح يوم الاثنين الثامن عشر من شهر سبتمبر عام 1961، أُذيع المصحف المرتل لأول مرة في التاريخ في دار الإذاعة بالقاهرة، ثم قامت بعد ذلك للمصحف المرتل محطة قائمة تُذيعه آناء الليل وأطراف النهار، وما لبثت سائر البلاد الإسلامية أن سارت على الدرب، فأنشأت محطات إذاعية خاصة بالقرآن الكريم.
أمَّا صاحب هذه الفكرة العبقرية الذي لا يذكره أحد، ولا يأتي على سيرته أحد في أية مناسبة أو احتفالية فهو الدكتور لبيب السعيد.
امتلأ قلب الدكتور لبيب السعيد 1914-1988بحب القرآن الكريم، والشغف بقراءته ومدارسته، وحضور حلقاته العلمية المعروفة باسم “المقارئ” في المساجد الكبرى في القاهرة، حيث كان يتوافد عليها أفذاذ القراء ونوابغهم.
يقول الدكتور لبيب السعيد في كتابه: “التسجيل الصوتي الأول للقرآن الكريم”: “كنت أتابع في المقارئ الكبيرة بالقاهرة الممتازين من علماء القراءات، وكان يؤلمني أنه إذا مات منهم أستاذ حاذق، خلفه أحيانًا من لا يعدله أستاذية وحذقًا، وضاعت على المسلمين إلى الأبد مواهب الميت؛ لأنها لم تحفظ وتُسجَّلْ”، مضيفًا: “ما كان أعظم شعوري بالخسارة الفادحة المستمرة على مدى الزمن في القراء الذين يموتون؛ ذلك أن إنتاجهم بطبيعته غير إنتاج غيرهم من أصحاب العلوم والفنون، فهؤلاء يستطيع الواحد منهم بفضل الكتابة أن يواصل بعد موته الحياة في إنتاجه، أمَّا أصحاب التراث الصوتي، وفي مقدمتهم: القُرَّاء، فكان تراثهم يفنى بفنائهم؛ لأن العلم لم يكن اهتدى بعدُ إلى طرائق تسجيل هذا التراث. وحتى بعد الاهتداء، تأخر تسجيل المصحف أمدًا غير قصير”.
عندما اختمرت الفكرة ووضع “السعيد” معالمها وكيفية تنفيذها؛ تقدم في سنة 1959 إلى مجلس إدارة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم -وكان هو رئيسها- بفكرة مشروعه الذي يقوم على تسجيل تلاوة القرآن الكريم كله برواية حفص، ثم بمختلف القراءات على ألا تُردد الآية الواحدة بأكثر من قراءة واحدة في التلاوة الواحدة.
كما يشمل التسجيل دروسًا عملية في أحكام التجويد بطريقة سهلة تُمكن جمهور المستمعين من الانتفاع بها، وأن يقوم على التلاوة علماء فن التجويد والقراءات، والقراء المهرة من أصحاب الأصوات الجيدة والأداء المتقن، وأن تختارهم لجنة لها خبرتها في القرآن وعلومه، يشارك فيها الأزهر الشريف والهيئات العلمية واللغوية والثقافية.
رحب الأزهر الشريف بالفكرة، وأبدى الإمام الأكبر محمود شلتوت ارتياحه ورضاه عنها.
يقول الدكتور لبيب السعيد: “عجزتُ عن تدبير أستوديو للتسجيل فيه بالمجان، فرغبتُ إلى نائب وزير الدولة لشؤون رياسة الجمهورية، وإلى المدير العام للإذاعة أن يأذنا لي بالتسجيل في أستوديوهات الإذاعة، وسعيتُ في ذلك سعيًا، حتى اُسْتُجيب لطلبي، بشرطٍ أصرَّتْ عليه الإذاعة، وهو أن يكون لها الحق المطلق في أن تذيع من محطاتها ما يتم تسجيله لديها، ولعل سروري بهذا الشرط وأنا أقدم به إقراراً كتابيًا كان أكبر من سرور الإذاعة”.
يستطرد “السعيد”: “حفَّزني الإخفاق في تمويل المشروع إلى التفكير في وضعه تحت الرعاية المالية للدولة نفسها. وفي يوم الأربعاء 24 من فبراير 1960، قابلتُ وزير الأوقاف الشيخ أحمد طعيمة ورجوتُه مساعدة المشروع ماليًا، فاستجاب فورًا وفي حماسة، وكانت استجابته مبعث طمأنينة واستبشار وأمل، وأصبح العمل شغل الوزير نفسه ومحل اهتمامه، فأفاد كثيرًا”.
على إثر ذلك..تشكلت لجنة عامة للإشراف على تنفيذ هذا المشروع، ضمت عددًا من رجال الشريعة والدعوة والقراءات، من أمثال: محمد أبوزهرة، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعامر عثمان، ثم دعا لبيب السعيد ثلاثة من أشهر القراء والعلماء للبدء بالتسجيل، وهم: محمود خليل الحصري، حيث اتفق معه على أن يسجل القرآن برواية حفص عن عاصم، ومصطفى الملواني، وكان حاذقًا في القراءات، واتفق معه على أن يسجل رواية خلف عن حمزة، وعبدالفتاح القاضي، وكان يشغل رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف، واتفق معه على أن يسجل قراءة أبي جعفر برواية ابن وردان، وهي من القراءات العشر، وفي الوقت نفسه يُشرف على التسجيل.
نجح لبيب السعيد بهذه الطريقة في أن يستأنف التسجيل، ورأى أن يمضي محمود الحصري في تسجيل رواية حفص، وفق الشروط والضوابط التي وضعتها اللجنة المشرفة على التسجيل، وكانت تضم عمالقة فن التجويد والقراءات في مصر، يتقدمهم عامر عثمان.
لم يكن التسجيل هينًا، فمع امتياز الحصري في القراءة، فإن اللجنة كانت تستوقفه كثيرًا؛ ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب.
وبعد الانتهاء من التسجيل بدأت مرحلة طبع أسطوانات المصحف المرتل، وانتهت في 23 يوليو 1961، حيث بُدئ في توزيع المصحف المرتل للمرة الأولى في تاريخ الإسلام.
أذيع المصحف المرتل من الإذاعة المصرية بالقاهرة للمرة الأولى في صباح الإثنين 18 سبتمبر 1961، إيذاناً بعهد جديد للمصحف الشريف، وإعلانًا عن نجاح مشروع الجمع الصوتي للقرآن الكريم.
وكان هذا أول جمع صوتي للقرآن الكريم، بعد أول جمع كتابي له في عهد خليفة رسول صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه.. فألا يستحق هذا الرجل الكريم التكريم والتقدير وتخليد اسمه؟