رأفت السويركى يكتب: “الفَوْضَي” لا تَعْنِي “الثَّوْرَة”!!
عاتبني العديد من “أصدقائي المثقفين بميولهم السياسوية المتنوعة” بشأن موقفي المرصود حول ما أسموه “الثورة السورية”؛ فقلت لهم: ألم تَكْفِكم حلقات الطبل والرقص؛ ومهرجانات الجنون التي تضج بها قاعات وشوارع وحارات وسائط التواصل الاجتماعوي لتمارسوا الفرح؟!
يا أصدقائي… إنني أتوخى الحذر من طبيعة اصطلاح “الثورة”؛ الذي تفرطون في ترسيخه كنخبة منذ ما تواكب مع “وقائع 2011م” في مصر؛ وكذلك تونس الجميلة وما تبعها في بقية البلدان. فقد اعتدتُ ودرَّبت الذات على ما تَعَلَّمته من توظيف “مِنْهَج الشك” للوصول إلى اليقين؛ قبل التسليم الأعمى بما يُقال؛ وتقديس الحوادث والفعاليات؛ من دون إدراكٍ لقانون الفعل المُحْدِث وعِلَل المُسبِّبَات.
*****
يا أصدقائي في هذه المرحلة من الزمان ـ وأنا أتحدث بلغتكم الخاصة ـ لا ينبغي أن نتغافل عما يُهيمن على عالَمِنا من استراتيجيات؛ تتمظهر في سيناريوهات؛ وتتجلى في سياسات؛ وتتموقع بما لها من إحداثيات في الفعاليات.
يا أصدقائي… “الثورة” إصطلاحٌ إيديولوجيٌ كما تعرفون “زئبَّقي الدلالة”؛ بمعنى أنك لن تستطيع أن تُمسك به بحكم “سيولة وميوعة خامته”؛ لذلك قد يكون طيِّباً وكذلك يكون خَبيثاً؛ ولا يمكن أن تَأْنَس له إلَّا بعد أن ترى إلى حضوره على الأرض: هل يُمَثِّل طفرةً إيجابية لتحسين الحالة والنوع؛ أم بؤرة منفلتة تُدَمِّر الأخضر واليابس؟
يا أصدقائي… “الثورة” ـ في القرون السابقة بمنطقتنا ـ قبل القرن الحادي والعشرين كانت تعبيراً مَحْكُوماً بإيديولوجيا “تحرير الأوطان” من الغُرباء المستعمرين البريطانيين والفرنسيين؛ وقد نفَّذَت حالةُ تلك”الثورة” بصورتها الفاعلة جيوشٌ وشعوبٌ داعمة لها بالمشاركة لتحقيق الدور التحريري؛ ثم التنموي عبر وجود نظام الدولة وفق “فقه المستطاع” (التجربة المصرية الناصرية والجزائرية أنموذجاً)؛ وليس عبر الميليشيات.
يا أصدقائي… “الثورة” ـ في القرن الراهن ـ بفعل “الإيديولوجيا التضليلية” في المفاهيم والتلاعب في صياغتها؛ صارت تعبيراً مُخادعاً؛ بل وتمثل منهجاً يُضْمِرُ مخْبُوءاً يستهدف التدمير لأبنية الأوطان والدول بهدم أنظمتها؛ وتدويرها طوراً منصهراً ومندمجاً في إطار حواف الإمبراطورية العولمية الرأسمالية الأرضية بعقلها الأميركي المهيمن؛ أي “الاستعمار الجديد” المُتَجَاوز للقُطْرِيَّةِ والمناطقية فتشمل الكوكب الأرضي كله نزوعاً إلى غزو بقية الكواكب المحيطة بالأرض.
وهنا يا أصدقائي فإن هذا الطور الجديد المُدَمِّر للأنظمة الوطنية؛ والذي يوصف كَذِبَاً ومُغَالَطَةً بالثورة، يكون ليس مُنتَمِيَّاً لتوصيف الثورة؛ ولكن لحقلِ مُسمَّى “الفوضى”؛ عبر فعاليات إراقة الدماء؛ وتفتيت تكوينات وبُنى الأوطان؛ وتجريدها من عناصر قوتها وتماسكها الوجودي لتصبح مساحات مستباحة لكل اللامنطق المتعارف عليه في خبرات البشرية.
*****
وقبل الوصول لتجرية “الواقعة السورية” من مُسماها المُروَّج له باعتبارها ثورة؛ نعيد التذكير بـ “الحالة المصرية 2011م” ومُسمَّاها. وإذا كانت التسمية ـ وفق ضرورات فقه الحالة وقتها ـ ذَكَرَتْهَا بتعبير “ثورة 25 يناير” فقد ألحقت بها، وتبعتها بتعبير “ثورة 30 يونيو” التي رَعَاهَا الجيش الوطني المصري الأصيل مشيراً إليها ـ لمن لم يدرك فنون الخطاب والتسمية ـ على سبيل تأكيد أنها تصحيحية لواقعة الفوضى التي حدثت في يناير المشؤوم.
ففعل يناير 2011م كان يستهدف هدمَ الدولة المصرية وتفتيتها؛ وتجريدها من عناصر تماسكها وفق “سيناريو الشرق الأوسط الصهيوني الجديد” الذي تأسس تطبيقاً بالغزو في العراق وليبيا؛ والانشقاق في اليمن والسودان؛ وختامها في سوريا المنتكبة راهناً.
“فوضى يناير 2011م” المصرية كانت تدشيناً لنوعية مُغايرة لجنس الثورات النقية تاريخياً؛ فقد جاءت نتيجة بعض العوار والترهل الذي انتشر في بُنى الدولة العميقة؛ وتحققت تلك الفوضى بتوظيف أدوات التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات الهاتفية المهيمنة؛ واستغلالها في تحريك كُتل العقل الشعبوي الخاص بالجيل المتعطل عن العمل؛ والمترهل معرفياً والموصوف بجيل العشوائيات الحياتية؛ لتجميعه وتحريكه بالمندسين داخله وفق أجندات محددة.
“فوضى يناير 2011م” المصرية تشكلت أدواتها المُحرِّكة من بيادق “قطعان جماعة حسن الساعاتي البناء” المتأخونة؛ وعناصر “تحزبات الإيديوجيات الكهفية” التي انقضى زمانها وضمرت فلسفاتها مثل الشيوعية؛ وجُلَّاس مقاهي التنشط الدولاراتي المعروفة بجمعيات حقوق الإنسان.
وقد ظهرت ملامح فعل الفوضي بالتظاهرات الكثيفة المنظمة؛ ثم تطويرها عبر الفعل الحركي بالهجوم على المؤسسات الحكومية وأقسام الشرطة والسجون؛ وتفليت المسجونين مهما كانت نوعياتهم بواسطة المدسوسين المتسربين من “أنفاق غزة القطاع”؛ والذي تهدم بحُمق فرع “حركة حاء/ حماس المتأخونة” في 7 أكتوبر؛ وهو ما حقق طموحات الكيان الصهيوني بالهيمنة على تلك الأرض الفلسطينية.
وقد انتقل هذا الطور الخبيث ليبدأ فعل “تقطيع الوطن المصري” واستصناع “مناطق مغلقة” تخرج عن سيطرة الدولة ويعتصم القطعان وميليشياتهم المسلحة بها؛ والدليل “حالة تقاطع رابعة العدوية”؛ وما تمركزت بها من ميليشيات الجماعة البنائية.
ولولا قوة وفعالية “مؤسسة الجيش المصري” العظيم لتَوَاصَلَ تطبيق السيناريو الكريه؛ ودخلت مصر العظيمة ـ لا قدر الله ـ في النفق؛ ولكن تلك المؤسسة العسكرية عالجت الأمر بالذكاء الاستراتيجي؛ والذي تضمن دفع وقبول حسني مبارك للتنحي لامتصاص المشاعر المضادة نتيجة التشوهات المحركة.
وكذلك نجحت هذه المؤسسة الوطنية الشريفة باستدراج “جماعة حسن الساعاتي” للإسفار عن مشروعها الهادم؛ عبر إتاحة الفرصة المدروسة لها لكي تكشف عن مشروعها الماسوني الخفي والمتضمن “مسح هوية مصر” التاريخية؛ والشروع في تفتيتها وفق مراحل بدأت بـ ( حلايب وشلاتين وبيع ثلث سيناء لتوطين الفلسطينين أنموذجاً)؛ فجاء “محمد مرسي” الذي لا قيمة له ولا وزناً يتمتع به ليكون رئيساً لمصر في الغفلة!!
يا أصدقائي ما سُمِّيت مخادعة (ثورة يناير 2011م) كانت من نوع “الفوضى” المستجدة النوعية على أدبيات فعل الثورات؛ وذلك الأمر انتهى بفعل ما سُميَّت (ثورة 30 يونيو)؛ والتي مثَّلت علاجاً لفيروس مرض سياسوي خبيث؛ يكون الشفاء منه بعقارٍ مضادٍ مُحَسَّنٍ؛ حسب نظرية معالجة الأمراض بما يُناسبها من نوعية الدواء المُتَحَوِّر. ومعيار الحُكم هنا يكون محكوماً بـ “المنفعة الحسنة/الشفاء”؛ وليس بتأصيل الأوبئة؛ وترسيخ وجودها المَرَضِي بفيروسات الميليشيات!!
*****
وهنا يا أصدقائي أسألكم عن رأيكم في الحقل الذي تنتسب إليه “الحالة السورية” الراهنة، وقد أزعجكم موقفي الذاتي منها؟ هل هي من نوع الحركة البريئة؛ أو الشريفة الحريصة على استقرار بنية وطن واحد له وجوده التاريخي؟ أم أنها من نوعية الفوضى التي تستهدف هدم الوطن السوري؛ بتقويض نظامه مهما كانت الملاحظات المحيطة بأفعاله؟
لقد سقطت بسيناريوهات مختلفة من قبل “الدولة العراقية” و”الدولة الليبية” و”الدولة اليمنية” و”الدولة السودانية” وسقطت “غزة الفلسطينية” وراهناً “الدولة السورية” في أحدث فصول تطبيق “الشرق الأوسط الصهيوني الجديد”.
والمؤسف أنَّ الأستار الكثيفة التي تختبئ خلفها الميليشيات الفاعلة بفكرها المتعفن؛ تقوم النخبة عبر وجدانها الرجراج بتزييف الفهم المحيط بهذا الفعل وهذه الميليشيات؛ عبر إدمان إطلاق اصطلاح الثورة بـ “العاطل والباطل” وفق التعبير الشعبوي؛ واستهلاكه ضمن حالة الإدمان الشعاراتي المتمكنة منها.
هل سَاءَلَ الأصدقاء أنفسهم قبل تَبَنِّي “اصطلاح الثورة” عن التركيبة البنيوية لكل الميليشيات التي ارتكبت جُرْمَ السعيِّ لتدمير الدولة السورية؟ وهل أدركوا أن تلك الميليشيات تمكنت من فعلها نتيجة مُعطيات مرسومة في إطار السيناريوهات الناظمة للفوضى في الدولة السورية؟
– لماذا يتناسى الأصدقاء مكونات التشكيلة البنيوية والسياسوية لكل فرق الميليشيات؟
– ما هي النظريات التي تؤسس لوجود وحركة هذه الميليشيات في الساحة السورية؟
– من الذي قام بتأهيل ودعم وجود وحركة هذه الميليشيات في سوريا؟
– أين اكتسبت تلك الميليشيات خبراتها الحقلية التي أهلتها لخوض الصراع البيني بينها وبين مثيلاتها من الميليشيات العرقية والعقدية والإيديولوجية؟
– ما هي المصادر التي تتحكم في هذه الميليشيات غير الوطنية؛ وتدعمها بالأسلحة والمعدات والمعلومات؛ وتوفر لها إمكانات تطبيق سيناريوهات السيناريوهات المتحورة؟
– ما هي ملامح المشروعات المنتظرة والمتوقعة لسيناريو تمكينها من الساحة السورية؛ بعد إزاحة نظامها وبدء تقنين مشروع تفتيتها؟
– ما هي المواقف المتوقعة من هذه الميليشيات المستصنعة تجاه الأطماع البنيوية لدول وكيانات الحواف السورية ( الكيان الصهيوني ـ الدولة الأغوية العثمانلية المتأخونة ـ الدولة الإمبريالية الأميركية)؟
– ما هي المقومات المُتَيَقَّن منها لدى هذه الميليشيات؛ لتقيم دولة سورية تحتفظ بوحدتها وتماسكها؟ هل لديها إمكانات الفكر والخبراء والأدوات الدولاتية التي تحتفظ بالوجود السوري الموحد؟
– هل يدرك الأصدقاء الحقيقة المخيفة لفسيفساء الدولة السورية الراهن؛ وملامح إعادة تشكيلها إلى “حارات” متجاورة بمسميات: “الدولة السنية” و”الدولة العلوية”، و”الدولة الشيعية” و”الدولة الإسماعيلية” و” الدولة الدرزية”؛ و” الدولة اليزيدية” و”الدولة المسيحية” و”الدولة الكردية”، و”الدولة التركمانية” و”الدولة الشركسية” و “الدولة الأرمنية” و “الدولة الآشورية”… إلخ؟
– لماذا يتجاهل الأصدقاء مؤامرة تشكيل تلك “القوة الفاعلة” التي تقود حِراك تفتيت الدولة السورية؟ كيف يتناسون أن الوجه الذي جرى تلميعه مؤخراً بمُسمَّاه “محمد أحمد حسين الشرع” والذي أُسَمِّيه: “الجولاني ـ حسب الشهرة ـ والقاعداني ـ من القاعدة ـ والداعشاني ـ من داعش ـ والإخواني عقلاً ووجداناً”؛ بوظيفته “القائد الأعلى لما تُسمى هيئة تحرير الشام المسلحة”؟!!
– هل تفكَّر الأصدقاء في دوافع وسيناريو تجميل صورة ذلك الإرهابي الجولاني؛ بمحاولة مسح اسمه الحركي المرتبط بالقاعدة “الجولاني”؛ وبدء تشهيره باسمه الميلادي “أحمد الشرع”؛ ليكون الوجهة الجديدة لسيناريو تفتيت الوطن السوري؟
– لماذا لا يجتهد الأصدقاء بتوقع سيناريوهات الحالة السورية المستقبلية؛ في ضوء انهيار دولة؛ صارت من دون جيش نظامي حاكم لوجودها وأمنها؛ ويجري تبديله بميليشيات؛ فيما هناك أفواهٌ مشرعةٌ تريد أن تقضم من الأراضي السورية ما تتمنى ومنها “الفم الصهيوني والفم العثمانللي؟!
– هل يُدرك الأصدقاء مخاطر تنامي متمنيات الأفواه العرقية والعقدية الداخلية بمشروعاتها الدفينة؛ والتي تتضخم راهناً بفعل السيناريوهات؛ وهل يدركون إن نظرية مشروعية إقامة الدول حسب العِرْقِيَّة لم تعد مشروعة سياسوياً في عصرنا الحديث؛ لأن الدولة تمثل بنظامها سياقاً جامعاً لكل التكوينات السكانية؛ ولم تَعُدْ هناك دولة “عِرْقِيَّة/عَقَدِيَّة” خالصة جرى استزراعها ضمن إطار مخططات ومشروعات الاستعمار القديم للمنطقة سوى “الدولة اليهوصهيونية” بمتوهم “من النيل إلى الفرات”؛ والتي قامت حسب عملية “سهم باشان” الصهيونية بالتدمير الكامل للمواقع العسكرية الاستراتيجية السورية وقواعدها ومطاراتها ومخازنها؛ بمعداتها من طائرات ومروحيات وصواريخ ورادارات وقذائف صاروخية وغيرها.
– لذلك يا أصدقاء… وفق هذه التطورات ألم تكن الدولة الصهيونية بذلك أحد أطراف لُعبة تمكين ميليشيات الفوضى من مشروع هدم وجود الدولة السورية؟!
*****
إن النظام السوري المُنْهَار في الحقيقة لم يكن نظيفاً بالمطلق؛ وكانت علله وأخطاؤه غير محدودة؛ ولكن انهياره بالمشروع الميليشياوي البديل لا ينبغي أن يُبَرِّرَ الترحيب النخبوي بتلك الكارثة الحادثة؛ إذ الواجب للضرورة تغيير “النظام الدولاتي” بنظام آخر دولاتي من نوعه؛ يتجاوز عللَ ما حدث لأسبابه الداخلية.
فيا ليت “النخبة الثقافوسياسوية” تفهم ولا تنحاز للحالة الخطأ؛ وليت أفرادها يُقدِّرون موقفي الرافض للميليشيات التي ترضع من الثديِّ الساعاتي البنَّاء المتأخون؛ والمضاد لنظام “الدولة الوطنية” فتقفز على مكوناتها وتدمرها كما يحدُث في “المسألة السورية”؛ فلماذا لا تُسَمُّونَ الأَشْيَاء بِأَسْمائِهَا… “الفَوْضَي لا تَعْنِي الثَّوْرَة”!!