حازم البهواشي يكتب: تعيش وتفتكر
![](https://misralan.net/wp-content/uploads/2023/07/يحازم-البهواشي9-780x470.jpg)
واحدةٌ من عبارات المواساة عند الموت، العبارة الحبيبة إلى قلوب المصريين حين يُقَدِّمُون صدقةً أو يقومون بالدعاء لأحبابهم الذين رحلوا في ذكراهم، فيقول لهم الآخرون هذه العبارة: (تعيش وتفتكر)، ذلك أن تذكرنا لأحبابنا الذين رحلوا عن عالمنا، يحمل معنى الأصالة؛ فالأصيل لا ينسى الجميل ولا من أسدى إليه معروفًا، ويظل ذاكرًا شاكرًا له حتى بعد الوفاة، هذا ديدن (ولاد الأصول) الذين لا يصدأ معدِنهم مع مرور الأيام. والصدقة التي يُخرجها الحيّ عمن رحل تُسمى في بعض أقاليم مصر (رحمة) خاصةً إذا كانت من الطعام، وكأنّ الواحدَ منا يَطمع ويطمح مِن فِعله هذا إلى أن يرحمَ اللهُ أحبابه.
الإنسانُ منا يتجول بين ذكرياته مع أحبابه، يسترجع أحداثًا ومواقفَ وكلماتٍ وتصرفات، ويفتقد وجودَهم معه، ربما يكون في الذكريات بعضُ التسلية: كان أبي لا يشرب الشايَ إلا ساخنًا، وكانت أمي تقول له: (بالراحة على نفسك يا راجل، هي الدنيا هتطير)!! كان أبي سريعَ البديهة، يُفحِمُ حين يَرُدّ، وكانت أمي تساعد أهلَ الحِتَّة (الحارة أو المنطقة) جميعَهم!! كان أبي يعتاد أن يُقِيمَ الليالي لأهل الله يُطعِمُهم ويَكسُوهم أحيانًا، وكانت أمي تقول له:(خلليك كده مِضَيَّع فلوسك، مش هتحوِّش حاجة لجواز البنات)!! وكان أبي يرد: (لهم رب اسمه الكريم)!! نتذكرُ سعيَ الآباء وسهرَ الأمهات، جَلَدَ الآباء وصبرَ الأمهات، نصائحَ الآباء وطبطبةَ الأمهات، وجبةً ساخنةً تجمعنا على الطَّبْلِيَّة في رمضان، وجلسةً ساخنةً على غَدَاءِ يومِ الجمعة بعد الصلاة ونحن نشاهد (عالَم الحيوان) بصوت الراحل “محمود سلطان” (1940م _ 2014م)، وحديث “الشيخ الشعراوي” (1911م _ 1998م)في تفسير القرآن، و(عَلْقَةً ساخنةً) من مُدرس المرحلة الابتدائية حين تُهمل في أداء الواجب!! أو من (شيخ الكُتَّاب) حين تهمل في حفظ القرآن!! و(حِنينة) ساخنة بالسكر في يوم (الخبيز) نأخذها وقد خرجتْ لتوها من الفرن البلدي ونسرع لاستكمال اللعب!!
أما أشهر (تعيش وتفتكر) فهي التي جاءت في مسلسل (أوراق الورد) الذي عُرِض لأول مرة عام 1979م قصة وسيناريو وحوار “وحيد حامد” (1944م _ 2021م) وبطولة الفنانة “وردة” (1939م _ 2012م)، حيث غنّت لابنها من كلمات “عبد الوهاب محمد” (1930م _ 1996م) وألحان “بليغ حمدي” (1931م _ 1993م) أغنية (تعيش وتفتكرني): (تعيش وتفتكرني // أكتر ما انتَ فاكرني // انتَ الحُب اللي ليَّا // من كل الدنيا ديَّا // وأي حُب تاني // باختاره وبحُرية // ماعدا حُبك انت // من غير ما اختار آسرني).
وطالما نتذكر الأحباب فهم معنا لم يغادروا إلا بأجسادهم، وحتى يطيبَ اللقاء فإن الاستكثارَ من الآثار الطيبة واجب، فهو يُطيل مدةَ الوجود في الدنيا (السيرة أطول من العمر) ويُزودُ الأحبابَ بما ينفعهم وينفعنا أيضًا.
الموت علينا حق، وتذكر الأحباب بعد رحيلهم أيضًا حق إلى أن يحين اللقاء، ولعل “مصطفى صادق الرافعي” (1880م _ 1937م) أبدع حين وصف حالَ الحيّ بعد الفقد حتى اللقاء، إذ قال: “يَمُوتُ الحيُّ شيئًا فشيئًا، وحِينَ لا يَبْقَى فِيه مَا يَمُوت، يُقَالُ: مَات”!!