يقول شيخنا محمد الغزالى: التجديد لا يعنى الحكم بالحلال على المحرمات المنصوص عليها فى الكتاب والسنة، والتجديد ليس مباحا لكل من يريد، وإنما هو لمن تتوافر فيه شروط اتفق عليها الفقهاء فى جميع المذاهب، وللتجديد قواعد مثل: الضرورات تبيح المحظورات، والمشقة والحاجة تبيحان التيسير، وإذا كان المجتهد أمام أمرين كلاهما فيه ضرر أو شر فعليه أن يختار أخف الضررين، وأهون الشرين، ويلتزم بمبدأ «لا ضرر ولا ضرار» ويضع فى اعتباره دائما أن حقوق الله مبنية على المسامحة، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأن يفنى بما يرفع الحرج عن الناس.
هذا هو الاجتهاد، وكل خروج على هذه القواعد ليس اجتهادا، وإنما هو ضلال وإضلال كما نرى فى فكر الجماعات التى ادعت أنها تدعو إلى صحيح الدين، بينما هى منحرفة، وخارجة على الدين، وداعية إلى إفساد العقيدة، وينطبق أيضا على جماعات تتمسك بكل ما فى الكتب القديمة، ويختارون منها الأكثر تشددا، فيضيقون على الناس فى دينهم ودنياهم، وينشرون الكآبة، ويحكمون بأن كل الموسيقى حرام، وكل الغناء حرام، وتعليم المرأة حرام، وإظهار وجهها وكفيها حرام، وحتى لعبة الشطرنج حرام، جماعات تستسهل كلمة «حرام» ويرفضون الأخذ بما كان عليه الصالحون من السلف الذين كانوا لا يطلقون الحرام على ما لم يكن تحريمه قطعا، وبالنص الصريح فى القرآن والسنة الصحيحة، وماعدا ذلك درجات مثل «مكروه».
التجديد يرفض التسليم بكل ما فى الكتب القديمة، ويبدأ مراجعة الآراء والفتاوى القديمة، والحديثة لاستبعاد كل ما يتعارض مع النص القرآنى أو مع السنة المؤكدة، وكل ما يتعارض مع العقل، وكل ما يتعارض مع المصلحة، وكل ما يستند إلى أدلة ضعيفة، وكل ما يعتمد على أحاديث موضوعة، ويضرب الشيخ الغزالى مثالا على العبث فى الفتوى، باسم التجديد ما نشرته الصحف يوما لشيخ اسمه محمد الزغبى، وتناقلها الناس بسخرية، ومع ذلك صمم على القول بصحتها، وهى أن أكل لحم الجن حلال(!) كما يشير إلى الحملة التى قادتها الجماعات السلفية، ونشرت ملصقات على جدران المبانى «لا تصافحوا النساء لأن ذلك حرام» وأغرب منها ما أفتى به شيخ من شيوخ السلفية بإلزام المرأة الموظفة بإرضاع كل رجل يتعامل معها ليكون محرما عليها، والفتوى بشرب بول الإبل للعلاج من الأمراض، وسادت فى بعض البلاد العربية فتاوى بأن قيادة المرأة للسيارة حرام وجلوسها أمام الكمبيوتر حرام وتعاملها مع الإنترنت حرام، ومن غرائب الفتاوى ما قاله الشيخ عادل الكلبانى من أن الغناء والموسيقى حرام شرعا، وأما الرقص، فإن فيه ما يباح، وفيه ما هو حرام، ومنها فتوى الشيخ يوسف البدرى بأن مشاهد عقد القران فى الأفلام والمسلسلات والمسرحيات يترتب عليها عقد زواج شرعى بين الممثل والممثلة لتوافر أركان الزواج، وفتوى الشيخ محمد يعقوب ـ أحد دعاة الإخوان ـ بأن الأصل فى الزواج هو تعدد الزوجات، وأنه متزوج بأربع نساء تطبيقا للشريعة، وفتوى شيخ سلفى بأن الطفل الذى يولد بعد خمس سنوات من موت الزوج ينسب للأب المتوفى، وفتوى معاشرة الزوج لزوجته بعد وفاتها «نكاح الوداع».
هذه الفوضى التى سادت لفترة طويلة دعت علماء المسلمين فى المؤتمر الدولى عام 2009 إلى الدعوة إلى أن يكون التجديد والإصلاح والاجتهاد مقصورا على «الاجتهاد الجماعى» من لجنة من علماء الشريعة وعلماء الفقه، وأن يتصدى الأزهر والمؤسسات الدينية فى العالم الإسلامى لتفنيد الفتاوى الفردية ممن يدعون أنهم مجددون ولا تتوافر فيهم الشروط.
التجديد إذن يحتاج إلى تعريف واضح ومحدد، بحيث يتم تخليص العقيدة الإسلامية مما نسب إليها، وتحول إلى سلاح يطعن به أعداء الإسلام هذا الدين، ويفسد على المسلمين عقيدتهم.
يحتاج المسلمون دائما إلى التجديد والإصلاح والاجتهاد، ومنذ بداية الدعوة، وهذا هو الحال، فقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حين بعثه للدعوة والإفتاء فى اليمن بأن يفتى برأيه إذا لم يجد نصا صريحا فى القرآن والسنة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أول المجتهدين فى مسائل عرضت عليه، ولم ينزل بها حكم فى القرآن، وللإمام الراحل الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق كتاب مرجعى بعنوان «اجتهاد الرسول» وكذلك للشيخ عبدالجليل عيسى عميد كليتى الشريعة وأصول الدين كتاب بنفس العنوان.ي الإسلام
وكان الخليفة عمر بن الخطاب مجددا وأرسى «فقه المصلحة» يذكر الشيخ عبدالمتعال الصعيدى ـ وهو من كبار العلماء ـ أن الغنائم كانت تقسم كما جاء فى القرآن «واعلموا أنما غنمتم من شىء فأن لله خمسه وللرسول، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل..» (الأنفال 41) فلما فتحوا العراق أرادوا قسمتها أربعة أخماس للجند الذين فتحوها، لكن عمر لم يأخذ بظاهر النص، ورأى أن يأخذ بتغير الظروف والأحوال وقال: كيف ومن يأتى بعد ذلك فيجد الأرض قد قسمت وورثها الأبناء، فماذا يكون للذرية والأرامل؟ وأرسى بذلك مبدأ تفضيل مقاصد الشريعة على النصوص الخاصة، وفى ذلك ـ كما يقول الشيخ الصعيدى ـ مرونة فى الدين لا يقدر عليها إلا من يعرف حقيقة رسالة الإسلام. وبعد الخليفة عمر بن الخطاب لم تنقطع مسيرة التجديد، لأن التجديد من طبيعة هذا الدين الذى قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن هذا الدين متين، وما شاد الدين أحد إلا غلبه» والتجديد هو التصديق للقول بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. والخلاصة أن التجديد من طبيعة الإسلام، لأنه دين للحياة، والحياة متجددة، والجمود يعنى الخروج على طبيعة الإسلام وطبيعة الحياة وطبيعة البشر