حازم البهواشي يكتب: الصامتون يفوزون
![](https://misralan.net/wp-content/uploads/2023/09/يحازم-البهواشي9-780x470.jpg)
العالَم مليءٌ بالضجيج، في الشارع، في السياسة، في خلفيةِ الحياة من حولنا عمومًا، فَتْوَنَةُ القَوِيّ تَصنع صَخَبًا وضجيجًا، وصوتُ (قليل الأدب) يَصنع صَخَبًا وضجيجًا، والجِدال (عَمَّال على بَطَّال) وعدمُ وجود نظام في أي مكان يصنع صَخَبًا وضجيجًا، ما يجعلنا في شوقٍ إلى الصمت؛ فالظلم يجعلنا نشتاق للعدل، والبرد يجعلنا نشتاق للدفء، والحَر يجعلنا نشتاق لنسمة الهواء، والضغط يجعلنا نشتاق للمُخَلِّص، والجفاف يجعلنا نشتاق للمطر، والجفاء يجعلنا نشتاق للحنان.
عجيبٌ أمرُ الصمت هذا؛ إنه يُحسِّن المزاج، ويُضفي على صاحبه الوقارَ والهَيبة، ويُخفف التوترَ والإجهاد، وتقول الدراسات إن من قاموا بمهامهم في صمت بذلوا أقلَّ مجهود عقلي، وإن تصفيةَ الذهن مِن الضوضاء يمكن أن تكونَ مِفتاحَك لزيادةِ قُدراتِك الإبداعية، ومما يُنْسَبُ للإمام “عليّ” _ رضي الله عنه _: (بكثرةِ الصمت تكونُ الهَيبة)، وقال: (إذا تمَّ العقلُ نَقَصَ الكلام). الصامتون يفوزون شريطة ألا يَصمتوا عن الحق، بل يترفعوا عن اللغو وما لا فائدةَ منه!!
في حديث الصحابي الجليل (معاذ بن جبل) _ رضي الله عنه _ الذي رواه الترمذي وغيره، أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أخبره بما يُدخله الجنة ويُباعده عن النار، ودلَّه على أبواب الخير، وأخبره برأس الأمر كله وعموده وذِروة سَنامه (الإسلام _ الصلاة _ الجهاد) ثم قال له رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _: “ألا أُخبرُكَ بمِلاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ (أي ما يكمل به ويتم) قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ (أي أمسَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بلِسانِ نَفْسِه) قالَ: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقالَ: ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ (وليس المرادُ به الدُّعاءَ عليه، ولكنَّها مِن كلامِ العرَبِ، واستعمالُه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لها لِتَنبيهِه إلى أمرٍ كان يَنبَغي أن يَنتَبِهَ له ويَعرِفَه)، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم”. وفي الصَّحيحينِ أنَّ النبيَّ _ صلَّى الله عليه وسلَّمَ _ قال: “ومَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليَقُلْ خيرًا أو ليَصْمُتْ”.
معظم أخطائنا تنشأ مما نقول، وقلة منها مما نفعل؛ فالأفعال غالبًا ناتجة عن تطاول أو إساءة أو كلام جارح.
أما السكوت فيختلف عن الصمت، فهو أقصر منه، وهو مؤقت، وعُرِّف السكوت بأنه تركُ الكلام مع القُدْرة عليه، ومن هنا نقول: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)؛ فهو يملك أن يتحدث لكنه آثر السكوت، ما أضاع حقًّا لشخصٍ ما!!أو آثر السكوت لمصلحةٍ عابرة!! ونقول أيضًا خاصةً عند استشارة البنت في أمر الزواج: (السكوت علامة الرضا)، فعدم الكلام هنا مؤقت وهو من باب الحياء.
الزمِ الصمتَ إن أردتَ نجاةً، وقد نُسِبَ للأديب الأمريكي “إرنست همنجواي” (1899م _ 1961م): (يحتاج الإنسان إلى سنتين ليتعلم الكلام وخمسين ليتعلم الصمت). عزيزي القارئ: كثيرون ندموا على الكلام، وقليلون ندموا على الصمت.