مقالات الرأى

د. سالى جاد تكتب: كيف غير البودكاست مفهوم الإعلام الرقمي؟

كنت وما زلت على قناعة تامة بأن الإعلام لم يكن يومًا مجرد أداة لنقل الأخبار والمعلومات، بل هو في جوهره انعكاس لحياتنا اليومية، يعكس أصواتنا، أفكارنا، وتطلعاتنا .. ومع التطور الرقمي المتسارع، وجدت نفسي أتأمل في التحول الذي أحدثه البودكاست في المشهد الإعلامي، وكيف أنه لم يكن مجرد منصة جديدة، بل حالة إنسانية متفردة استطاعت أن تستعيد دفء الحكايات ورحابة الحوار في زمن تسوده السرعة والاستهلاك اللحظي للمحتوى.
عندما بدأت ثورة الإعلام الرقمي، اعتقد البعض أن المستقبل سيكون للصورة والفيديو فقط، وأن الصوت سيصبح شيئًا من الماضي ، لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا ، فالبودكاست لم يزاحم المحتوى البصري، بل أعاد للإنصات قيمته، وفتح مجالًا لنوع مختلف من التفاعل، حيث لا يضطر المستمع للتركيز في الشاشة، بل يترك خياله يقوده، ويمنح عقله المساحة الكافية لاستيعاب الأفكار والتأمل فيها ، وهنا بالضبط تكمن قوة البودكاست ، في قدرته على استعادة العلاقة الحميمية بين المتحدث والمستمع، في زمن صارت فيه معظم الوسائل الرقمية تحكمها السرعة والتشتت.
في تقديري الشخصي، البودكاست ليس مجرد امتداد للإذاعة التقليدية كما يراه البعض، بل هو تجربة مختلفة تمامًا ، ففي الراديو، كان الجمهور مقيدًا بجداول البث، يخضع لاختيارات المحطة، ويضطر إلى الاستماع في أوقات محددة. أما البودكاست، فقد منح الحرية الكاملة للجمهور ليختار ماذا يسمع، ومتى يسمع، وكيف يتفاعل. بل ذهب بنا الى ما هو ابعد من ذلك ، حيث أصبح لكل شخص محطته الخاصة التي تعبر عن اهتماماته، دون قيود زمنية أو موضوعية، مما جعله أكثر قربًا من الناس، وأكثر تعبيرًا عن تنوعهم وتفردهم.
المثير للانتباه أن البودكاست لم يؤثر فقط في طريقة الاستهلاك الإعلامي، بل أعاد تشكيل مفهوم الإعلام نفسه. أصبحنا نرى إعلامًا أكثر إنسانية، حيث يمكن لشخص عادي أن يكون مذيعًا، ويمكن لموضوع بسيط أن يلقى اهتمامًا عالميًا، ويمكن لصوت واحد أن يُحدث تغييرًا حقيقيًا. لم تعد سلطة الإعلام مقتصرة على المؤسسات الكبرى، بل أصبح لكل فرد صوته الذي يستطيع أن يصل للناس دون وسطاء، وهو ما منح البودكاست بعدًا ديمقراطيًا لم يكن متاحًا من قبل.
لكن مع كل هذه الحرية، تأتي مسؤولية كبيرة. فكما فتح البودكاست المجال أمام أصوات جديدة، فقد سمح أيضًا بانتشار المحتوى غير الدقيق والمعلومات المضللة ، وهنا أود التأكيد على مسألة فى غاية الأهمية وهى الدور المجتمعى الذى يقع على عاتق المستمع، الذي لم يعد مجرد متلقٍ، بل أصبح عليه أن يكون ناقدًا، قادرًا على التمييز بين الموثوق والمغلوط، وبين الجاد والعابر ، وهذا يضعنا أمام معادلة جديدة: كيف نحافظ على حرية التعبير، دون أن نسمح للفوضى بأن تسيطر على المشهد؟
اللافت للنظر أن تأثير البودكاست لم يقتصر على الأفراد، بل امتد إلى المؤسسات الإعلامية الكبرى التي بدأت تدرك أهمية هذه الوسيلة، وتسارع إلى إنتاج برامجها الخاصة، لتواكب التحول الذي فرضه الجمهور نفسه. وهنا يمكنني القول إن البودكاست لم يكن مجرد تطور في أدوات الإعلام، بل كان إعادة تعريف لطريقة تفكيرنا فيه، وفتح الباب أمام مستقبل أكثر تنوعًا، وأكثر قدرة على استيعاب الأصوات المختلفة.
ربما يكون السؤال الآن: هل سيبقى البودكاست في الصدارة، أم أنه مجرد موجة سرعان ما ستتلاشى؟ في رأيي، الإجابة لا تعتمد على التقنية بقدر ما تعتمد على احتياج الإنسان. وطالما كان الإنسان بحاجة إلى أن يحكي ويُحكى له، وطالما ظل الصوت قادرًا على خلق رابط إنساني يتجاوز الحدود والشاشات، فإن البودكاست سيظل حاضرًا، لا كوسيلة إعلامية فحسب، بل كحالة إنسانية تعيد إلينا دفء الكلمات وسط صخب العالم الرقمي.
———

زر الذهاب إلى الأعلى