مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: الراء.. بين معالي الوزير وواصل بن عطاء

بعيدًا عن كونه مؤسس فرقة “المعتزلة”، فإنه كان ولا يزال يُضربُ بـ واصل بن عطاء المَثلُ فى الفِطنة والفصاحة وحُسن التصرف فى القول والفعل، ولكنه كما تقول المصادر التاريخية: كان “صاحب عاهة فى نطق حرف الراء”، مثل معالي الوزير. ومن المعروف أن حرف الراء من أكثر الحروف دورانًا على الألسنة وتكرارًا في الكلام.
“واصل”، الذى عاش بين عامى 700-748 ميلاديًا، كان يُلقب بـ”الغزال الألثغ”؛ لأنه كان يُحسن تدارُكَ هذا العيب المُحرج في النطق، فيتجنب حرف “الراء” إلى ما سواهُ من الحروف، فيجعل “البُرَّ” قمحًا، و”الفراش” مضجعًا، و”المطر” غيثًا، و”الحفر” نبشًا.
تحتفظ المراجع التاريخية بخطبة مُرتجلة كاملة لـ”واصل” تجنب فيها حرف “الراء” تمامًا، وهو ما لا يطيقه وزير الأوقاف الحالى، ولا يستطيع عليه صبرًا ولا قدرة ولا احتمالاً.
كان واصل بن عطاء قد دُعي لإلقاء خطبته على الملأ في حفل جامع ضمَّ صفوة القوم، أقامه والي العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز. حضر المجلس سادةُ المفوهين والبلغاء، وفي طليعتهم ثلاثةٌ من أعلام الخطابة وأرباب الفصاحة، هم: خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة والفضل بن عيسى، وشرع كل واحد يُلقي خُطبته، وكان واصل بن عطاء آخرهم، فارتجل خُطبته العتيدة وسط دهشة الحاضرين وإعجابهم؛ لخلوِّها التام من حرف الراء..وجاء نص الخطبة كالتالي:
“الحمد لله، القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوِّه، ودنا في علوِّه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يُخلق على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعدّ له اصطناعًا، فأحسن كل شيء خلقه وتمَّم مشيئته، وأوضح حكمته، فدلّ على ألوهيته، فسبحانه لا مُعقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته. وذلّ كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزُب عنه مثقال حبة، وهو السميع العليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا مثيل لـه، إلهًا تقدَّست أسماؤه وعظُمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزَّه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصَى فيحلُم، ويُدعَى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون.
وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصدق طوّية، أن محمدَ بنَ عبد الله عبدُه ونبيُّه، وخالصتُه وصفيُّه، ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصدُّه عنه زعم زاعم، ماضيًا على سنته، موفيًا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجلَّ وأعلى، صلاةً صلاّها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم -عبادَ الله- مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، فأحضُّكم على ما يُدنيكم منه، ويُزلفكم لديه، فإنَّ تقوى الله أفضلُ زاد، وأحسنُ عاقبة في معادٍ. ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاعٌ قليلٌ، ومُدةٌ إلى حين، وكل شيء منها يزول. فكم عاينتهم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سُمًا.
أين الملوك الذين بنوَا المدائن، وشيَّدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدّوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد. قبضتهم بمخلبها، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقًا، ومن العز ذلاً، ومن الحياة فناءً، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا تُعاين إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم أحدًا ولا تسمع لهم نبسًا.
فتزودوا عافاكم الله؛ فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظِّه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله، الزكية آياتُه، الواضحة بيناتُه، فإذا تُلي عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون.
أعوذ بالله القوي، ومن الشيطان الغويِّ، إن الله هو السميع العليم. بسم الله الفتاح المنَّان. قل هو الله أحد الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم. وأدخلنا جنات النعيم. أقول ما به أعظكم، وأستعتب الله لي ولكم”.
إلى هنا..انتهت خُطبة واصل بن عطاء، غير أن أصداءها لم تنتهِ إلى يومنا هذا، وصارت مضربًا للأمثال: بلاغة ولغة وسَبكًا وحكمة وإيجازًا وحضورًا وذكاءً.
الخطبة قيمة تربوية عظيمة. تنبع قيمتها التاريخية من كونها أنموذجًا من خُطب الوعظ الخالص في القرن الثاني للهجرة, تجنَّب فيها “واصل” فتن المذاهب والدعوات المذهبية وتصوير نهاية الأحياء, والتنويه بفضل القرآن الكريم, والحث على إتباع آيه وهديه.
أهمية خطبة واصل -التي جانبَ فيها الراء- لا تنبع من مضمونها ومعطياتها المعرفية والدينية فقط، إنما تتجلى أهميتها في بنيتها اللفظية وسمتها الأسلوبية، وكونها مُرتجلة تدل على اقتدار صاحبها في امتلاك ناصية اللغة، وتمكنه من معطياتها التعبيرية، من قوة بديهة وحسن أداء، وكل ذلك أكسبها قيمة فنية وقيمة تاريخية، بحيث غدت قطعة نثرية بالغة الطرافة والتفرَّد في الأدب العربي، حتى نظم الشعراء، مثل: صفوان الأنصاري وبشار بن برد، شعرًا فيها وفي صاحبها مدحًا وتعظيمًا.
إن الإمساك بزمام اللغة، وامتلاك ناصية التعبير، مع البداهة والقدرة على الارتجال، كل ذلك لا يستطيعه إلا من كان من أولي العزم من أهل اللغة والبلاغة والفصاحة. وكما يقول سهل بن هارون: “سياسة البلاغة أشد من البلاغة”.
يقول الجاحظ: “ولما علم واصل بن عطاء أنه ألثغ فاحش اللثغ، وأن مخرج ذلك منه شنيع، وأنه كان داعية مقالة ورئيس نِحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النِّحل، وزعماء الملل، وأنه لا بد له من مُقارعة الأبطال، ومن الخُطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى إتمام الآلة، وإحكام الصنعة، وإلى سهولة المخرج، وجهارة المنطق، وتكميل الحروف، وإقامة الوزن، وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة، كحاجته إلى الفخامة والجزالة، وأن ذلك من أكثر ما تُستمال به القلوب، وتثنى إليه الأعناق، وتزين به المعاني.. ومن أجل الحاجة إلى حسن البيان، وإعطاء الحروف حقوقها من الفصاحة، رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله، ويُساجله، ويتأتى لستره، والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول، واتَّسق له ما أمّل”.
هذا ما فعله “واصل بن عطاء” وتمرَّس عليه وتمكن منه، حتى دانت له اللغة وخضعت، وكأنما لم يعد في لغة الضاد حرف الراء، وهو ما عجز عنه الوزير الحالي ويتمادى في عجزه متباهيًا، ورغم ذلك لا يبرح المنبر، ولا يتوقف عن تقديم البرامج، وإجراء المداخلات غير مُبالٍ بتذمر المتذمرين وشكوى الشاكين؛ لذا يذكر التاريخ –رغم كل هذه السنين- واصل بن عطاء، ويجهل الواقع غيره من المتكالبين والعجزة والأدعياء.

زر الذهاب إلى الأعلى