مقالات الرأى

رأفت السويركي يكتب: ربط “اللغة العربية” بالعقيدة فقط… انتهازية ومرض سياسوي

0:00

دلالة كبيرة يحملها اعتبار اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة؛ والتي يجري الاحتفال بمناسبتها في الثامن عشر من ديسمبر سنوياً؛ حيث لغة الضاد تعَدُ أداة من أدوات خطاب لسان وتفكير قرابة نصف المليار من البشر.

وإذا كانت اللغة هي وعاء الخطاب الذي نمرر عبر حروفه متون الأفكار؛ فإن وظائفيتها مرتبطة بإبلاغ مستهدف سياسوي مقصود يسعى للهيمنة؛ من المرسل إلى المتلقي مهما كان مربع هذه اللغة.
غير أن الظاهرة التي ينبغي أن نلتفت إليها كثيراً من المنظور الحضاري، هي أن ربط اللغة العربية بالعقيدة فقط يمثل مرضاً سياسوياً. فالتوظيف العقائدي هو نهج سياسوي، وذلك لارتباطه بإقامة نظام دنيوي محدد مرتبط بالمقدس فقط؛ لكون ارتباطه خاص بالعقيدة التي وظفت وعاء اللغة العربية لإيصال خطابها لأهلها ومن جاورهم من الأقوام.
*****
حين يكتب أحدهم كعضو في “جماعة سياسوية” تختبئ بهوية العقيدة قناعاً مخادعاً في فضاء التواصل الاجتماعوي: “يكفي العربية شرفاً وحسن وصف قول الله فيها: ﴿إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون﴾؛ و﴿كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون﴾؛ و﴿قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون﴾… فهذا توظيف سياسوي مُخادع… لأن المُسْتَتِر في مجمل خطابه هو الترويج لجماعته المنافقة عقيدياً و الباحثة عن القفز للسلطة عبر متوهم مُسمى “دولة الخلافة”؛ والتي تنتمى إلى “زمان الديناصورات” المنقرضة بالنظر للتحول الرأسمالي العولموي.
إن التوظيف السياسوي بتصدير الآيات القرآنية الشريفة حول “عربية القرآن” للجمهور في “يوم اللغة العربية” العالمي من دون الاهتمام بشرح ما يُسمى ضرورات “خصوصية” و”أسباب النزول”؛ يُغلق ويحصر حتى أفق الدعوة بأهل لسان هذه اللغة فقط؛ وليس غيرهم ممن لا يفهمونها ولا يتحدثون بها.
*****
إن خصوصية “نزول الوحي القرآني” ترتبط بضرورات استهداف الرحمة؛ إذ نزل النص الشريف على (قلب) رسول (عربي)؛ ولغته هي (العربية)؛ ومستهدفه الأول بالدعوة هم قومه من (العرب) المتواجدين بدءاً في الجزيرة العربية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)؛ وإلا لكان النص القرآني نزل بكذلك بالفارسية أو العبرية أو اللاتينية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو البرتغالية أو الروسية أو الإسبانية… إلخ
لذلك فإغفال خصوصية وغرضية “أسباب النزول” الأولى تعتبر مسألة لا تزال من المُتَغَافل عنها سياسوياً بالقصد العمدي من كل المتاجرين سياسوياً بالعقيدة. وبهذا فإن هيمنة هذا التصور العقدوي المتسيس قد تسبب في نشوء إشكالية تكمن في أن اللغة العربية لم تعد “لغة حضارة”! وجرى حصرها وظائفوياً في اعتبارها “لغة كيفية الوصول للجنَّات” عبر آليات وفقهويات التحريم والتحليل وما شابه من أغراض.
*****
والمؤسف في الأمر أن “أهل العربية” والناطقين بها حصروا تفكيرهم طيلة التاريخ المُنْقضي في هذا الحقل عدا القلة القليلة من المتفكرين؛ والذين جرى قمعُهم بالتكفير والاتهام بالإلحاد والزندقة والقتل (ابن رشد وابن الهيثم والكندي وابن سينا والفارابي وابن حيان؛ فضلاً عن ابن عربي والراوندي والرازي… إلخ أنموذجاً).
وهذا ما جعل أهل العربية والناطقين بها ينصرفون تاريخياً عن إِعْمال العقل والتفكر في موجودات الله؛ وقوانين الحياة؛ لتتقولب “اللغة العربية” حسب “قانون الاستعمال والإهمال” والانحصار في اجترار ما قالته القدماء؛ وهم كانوا “أهل رواية” و”إعادة استظهار” وليسوا أهل تأمل وَتَبَحُّث وتجارب.
ونتيجة هذه القولبة اهتمت العرب أكثر باجترار ما “وراء الزمان” والسرمدي؛ وهم لا يمتلكون أية أدوات استبار واختبار بالتجربة حتى لمكنونات تصوراتهم؛ فاستلبتهم أسطورويات القرون الأولى التي انتجتها العقول القديمة فهيمنت على عقولهم الجامدة. وهم ليس في أيديهم أدوات ووسائل التفتيش في الكون لاستجلاء أسراره ومخفياته لأنهم احتبسوا أنفسهم في فئة “أهل رواية”!
*****
والمريب في “اللعبة السياسوية” تلك أن بعض مُروِّجي هذا الخطاب اللغوي لا يتورعون عن الكذب بالقول إن: (العربية هي لغة العقل والعلم والتقوى) من دون أن يقدموا ما يُساند هذا القول من دليل في عصرنا وما سبقه؛ لذلك تكتفي نخبة العلم اللغوي بما يُسمى “التعريب” من خطاب الآخر إلى العربية؛ هذا لأننا فقراء في حقول الابتكار والاختراع إلى درجة الفاقة.

لذلك ينبغي أن نتحرك لنأخذ “اللغة العربية” للحقول المغايرة؛ وبدل أن تجترَّ بنية هذه اللغة وقائع الماضي؛ فلتقم باستيعاب ما أفرزه وما يمكن أن يفرزه العقل العربي والمسلم لا حقاً؛ إذا غادر فضاءات الشعرية والبلاغة؛ وخطاب الشعر والرواية بالتغير لاختلاق” خطاب العلم والابتكارات” في حقول “الاستصناع” و”الاستزراع” و”البحث في الكون”؛ لكي لا تكون هذه اللغة راهناً إنتاج عقل استهلاكوي وعالة على الآخر/ الكافر المتفكر والمبتكر؛ وهو ما تحتاج إليه “أمة اللغة العربية” راهناً؛ خلاصاً من ذلك المرض المتكلس؛ والانتهازية السياسوية المناورة بمتوهم “دولة الخلافة” والتي انقضى زمانُها ومشروعُها

زر الذهاب إلى الأعلى