محمد أمين المصري يكتب : المنتصرون في قمة جوانزو الإعلامية (٢)
لم تكن القمة العالمية للإعلام التي استضافتها مدينة نانشا بإقليم جوانزو بالصين يومي ٣و٤ ديسمبر الحالي في نسختها الخامسة، مجرد لقاء يجمع قيادات الوسائل الصحفية والإعلامية في العالم، وإنما استهدف اللقاء الدولي عصف فكري صعب للخروج بنتائج يتم من خلال مواجهة تداعيات الذكاء الاصطناعي على مستقبل الإعلام بشقيه ( الصحفي والمرئي)، هذا بغض النظر عن سطوة السوشيال ميديا في وقتنا الراهن واحتمال أن تكون القاطرة مستقبلا لصناعة الأخبار.
ربما ليس هناك مبالغة في أن يفكر القائمون على الإعلام الدولي والإقليمي في سطوة السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي على صناعة الإعلام ككل، ولنا في ما حدث أخيرا من انتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتعلم غير الإعلاميين (أو ادعائهم ) أنهم أصبحوا كُتَابا كبارا، وتغير حال السابق عندما كان يقول المرء لصديقه ”هل قرأت مقال فلان اليوم) إلى (هل قرأت ما كتبته أنا اليوم على الفيس بوك).
في الماضي، كان القراء ينتظرون كاتبهم على أحر من الجمر ليعرفوا منه خفايا الأمور ومستقبل الأحداث، ولكن الآن أصبح كل البشر إعلاميين وزادت تطبيقات الذكاء الإصطناعي الطين بله لتمنح كل الناس القدرة على الكتابة والتحليل وتوقع مستقبل التطورات وتداعياتها.
ومع تعاظم المخاوف من تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الإعلام ومخرجاته، ومن أكثرها سلبية اعتماد الصحفيين والصحفيين على تطبيقات الشات الاصطناعية لتوليد المنتج المحتوى الإعلامي الجديد، وما قد يضمه من إخلال بالعمل المهني والأخلاقيات الصحفية المتعارف عليها..تبنت القمة العالمية للإعلام بالصين مجموعة من التوصيات لمواجهة مدى تأثير صحافة السوشيال ميديا والذكاء الاصطناعي على مستقبل مهنة الإعلام.
انتهينا عند موضوعنا السابق نافلة بالتذكير بأهمية استعادة دور الإعلام التقليدي في تشكيل الرأي العالم، وأن هذه المهمة تتطلب تبني استراتيجيات وممارسات جديدة لتلبية تحديات العصر الرقمي تحظى بتفاعل الجماهير. ولعل على الإعلام التقليدي الاضطلاع بمهام محددة لاستعادة دوره، مثل الاستثمار في الجودة والتحقق من صحة محتوى الانتاج الصحفي، لأنه يجب أن يكون الإعلام التقليدي مصدرا موثوقا للمعلومات، وأن يولي أهمية كبيرة للتحقق من الدقة والموضوعية والمصداقية في تقديم الأخبار والتحليلات. ويتعين على الإعلام التقليدي استخدام التقنيات الحديثة للتحقق من الحقائق ومكافحة الأخبار المضللة والزائفة . ويتعين على الإعلام التقليدي تقديم فهم شامل وتحليل متعمق للأحداث والقضايا العالمية، مستفيدا بآراء الخبراء والمحللين لتوضيح وتوجيه الجمهور في قضايا معقدة، وهو ما يعني توفير التحليل والتفسير للأحداث ، وهي قدرة يمتلكها الإعلام التقليدي على توفير تحليلات متعمقة وتفسيرات ذات قيمة مضافة للخبر.
كما يجب أن يكون الإعلام التقليدي، منصة للتفاعل والمشاركة مع الجمهور، مع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات والتحادث الحديثة.
وعودة إلى القمة الإعلامية ومخرجاتها وتفاعلاتها المهمة، فالحديث نجاح القمم والمؤتمرات العالمية يعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك الأهداف والتوقعات المحددة للقمة، ومدى تحقيقها لهذه الأهداف، ومشاركة الدول والمشاركين،وتأثير الأحداث والقرارات المتخذة خلال القمة، وغيرها من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبناء عليه، وبما أن القمة ناقشت التحديات التي تواجه صناعة الإعلام وسبل تجاوزها، فكان لزاما على المشاركين في القمة مناقشة السيطرة الكبيرة للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا على مجريات العمل الإعلامي، فالتقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات شكل تحديا كبيرا للإعلام التقليدي. نظرا لأن التكنولوجيا تغيرت بشكل جذري من ناحية كيفية استهلاك الأخبار والمعلومات، وتأثرت معها (سلبا) وسائل الإعلام التقليدية بتراجع الإيرادات والانتقال إلى الوسائط الرقمية.
ولم يغفل المشاركون على مدى الجلسات المختلفة مناقشة قضية السوشيال ميديا والتدفق السريع للمعلومات، نظرا لما يواجه الإعلام من تحدي أكبر بسبب السوشيال ميديا والتدفق السريع للمعلومات. فالأخبار الزائفة والمعلومات غير الموثوقة أصبحت تنتشر بسرعة كبيرة وتؤثر على الرأي العام. الأمر الذي يستلزم معه جب من قبل وسائل الإعلام التقليدية التعامل مع هذا التحدي من خلال توفير محتوى موثوق والتركيز على الجودة والتحقق من الحقائق.
ولم يكن تحدي المتمثل في ( تراجع الإيرادات والنماذج التجارية التقليدية) بأقل أهمية مما سبق، خاصة وان عادات الاستهلاك تغيرت وتحولت الإعلانات إلى الوسائط الرقمية، مما يتطلب من وسائل الإعلام التقليدية إعادة التفكير في طرق توليد الإيرادات والتكيف مع التغيرات في سوق الإعلانات.
ولم تغفل القمة الإعلامية بالصين عن تدارس سبل مواجهة هذه القضايا، لتضع بعض الحلول السريعة، ومنها وضع استراتيجية عامة طالبت بالتركيز على الجودة والمصداقية وضرورة تمسك وسائل الإعلام التقليدية التمسك بالمعايير الصحفية العالية وتقديم محتوى ذو جودة عالية وموثوقية، والأهم من هذا التحقق من كل ما ينشر و تصحيح الأخبار الزائفة قبل النشر.
لم تكن القمة الإعلامية بعيدة عن التكنولوجيا بطبيعة الحال، فطالبت بالتكيف مع التكنولوجيا الحديثة وسرعة استخدامها والتكيف مع التغيرات في سوق الإعلام، باعتبار أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لتحسين تجربة المستخدم وتوفير محتوى مستهدف وفعالية في استهداف الجمهور.
وماليا، فثمة فكرة قد تليق بوسائل الإعلام التقليدية العمل بها أو تحديثها وتطويرها مع الوقت، وهي استكشاف النماذج التجارية الجديدة في جذب الإيرادات عبر الإنترنت والإعلانات المستهدفة، والتعاون مع الشركات والمنظمات لتطوير مشاريع مشتركة.
الجمهور لم يكن غائبا عن القمة الإعلامية، فكان لمطلب التفاعل معه مناقشات مهمة، نظرا لكون أن التفاعل مع الجمهور يمنح وسيلة الإعلام فرصة للاستفادة من ردود الفعل ومعرفة اهتمامات الجمهور المتلقي والتفاعل معها وتقديم محتوى جديد يتناسب مع هذه الاهتمامات، فمثلا هناك جمهور الشباب يتفاعل مع المادة الرياضية فيجب مضاعفة المنشور منها، ومن العام إلى الخاص، فإذا كان الشباب يريدا نقدا رياضيا للحدث الرياضي فهنا يستلزم استكتاب العارفين بهذا العلم وليس الهواة، فالنقد الرياضي يتطور بسرعة كبيرة يستلزم معها ضم كبار النقاد الرياضيين إلى وسائل الإعلام أو على الأقل تدريب جيل الشباب على كيفية النقد الرياضي الذي يليق بعقول الشباب وتطلعاتهم.
عالم الذكاء الاصطناعي ليس كله شرا بطبيعة الحال، فيمكن أن يساعدنا في تحسين جودة المحتوى ومكافحة الأخبار الزائفة وما أكثرها في عالم السوشيال ميديا وبعض المواقع الإخبارية غير المسئولة أو تلك التي تريد تحقيق مكاسب مالية سريعة وشهرة غير مستحقة عن طريق ما يسمي بـ(الترند). فمع استخدام الذكاء الاصطناعي يمكننا التحقق
من الحقائق وكشف الأخبار الزائفة عن طريق تقنيات تحليل اللغة والمحتوى التحقق من صحة الأخبار وتحليل النصوص لكشف الأخبار الزائفة والمعلومات غير الموثوقة. كذلك الكشف
الكشف عن الانحياز والتوجيه الإعلامي في المحتوى الإعلامي وتوجيه المستخدمين نحو مصادر متعددة وآراء متنوعة.
نأتي للتساؤل الأهم: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الصحفيين؟..بالطبع لا، فهو عامل مساعد في العمل الصحفي وكتابة المحتوى وليس صحفيا، فهو يساعد الصحفي
في جمع البيانات من مصادر مختلفة على أن يقوم الصحفي بتحليلها وتقييمها واستخلاص النتائج. كما أنه ليس من أدواره كتابة المحتوى الصحفي لأنه ليس ملما بتفاصيل القضية أو الخبر أو التصريح، وبالتالي فتوليد المحتوى الصحفي مهمة أساسية للصحفي. ولكنه – أي الذكاء الاصطناعي- يساعد في البحث والمراجعة وتوفير مصادر مرجعية وإحصائيات تاريخية، ولكن كل هذا يتطلب مهارات بشرية وتفاعل عقلي بشري والتزام بأخلاقيات وأدبيات المهنة، وهو ما لم يقدر على الذكاء الاصطناعي، فالصحفي هو الذي يقوم بالتحقق من الحقائق والمصادر والتأكد من صحة المعلومات قبل نشرها، و هذا العمل يتطلب تفاعل بشري وقدرات تقييم وتحليل معقدة، يضاف إلى هذا قدرة العقل البشري على
التأثير والتعبير الإبداعي، فالصحفي مثلا يستخدم الصحفيون خبراته ومهاراته اللغوية والتحريرية لإيصال الأخبار والقصص بشكل فعال ومؤثر، ناهيك عما لديه من قدرة على صياغة القصص الصحفية والإنسانية، وهو ما ليس في قدرات الذكاء الاصطناعي ولا يستطيع محاكاتها بشكل كامل.
إجمالا.. يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة للصحفيين في إنتاج المحتوى الصحفي، ولا يمكن له أن يحل محل الصحفيين في كتابة الأخبار بشكل كامل. النجاح في مجال الصحافة يتطلب الكثير من العوامل البشرية مثل الابتكار والرؤية الصحفية والتفاعل مع المجتمع والقدرة على فهم الثقافات المختلفة. الذكاء الاصطناعي قد يكون قادرا على توليد محتوى أولي وتحليل البيانات، لكنه لا يمتلك القدرات الشاملة التي يتميز بها الصحفيون في صياغة القصص والتحقق من الحقائق والتواصل مع الجمهور بشكل فعال.ولذلك نقول: إن عالم الذكاء الاصطناعي هو أداة مساعدة للصحفيين.
ربما نعيد ونذكر بأن القمة ناقشت على مدى ٣و٤ ديسمبر الحالي عبر جلساتها المتعددة ما تتعرض له وسائل الإعلامية التقليدية من تحديات في ظل التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي وتحول الجمهور إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كبديل لوسائل الإعلام. ومن هنا ناقش ٤٥٠ ممثلا ل٢٠٠ مؤسسة أعلامية عربية وإقليمية ودولية ومنظمات ومراكز أبحاث دولية ، مستقبل الإعلام تحت شعار ” تعزيز الثقة العالمية..تعزيز تطوير وسائل الإعلام ” . وبحثت القمة ، مستقبل الإعلام عبر ٤جلسات عامة ، وهي “تعزيز الثقة: دور الإعلام في دعم التنمية والأمن. للبشرية “، و”احتضان لتغييرات :استجابة الإعلام لفرص وتحديات التكنولوجيا الجديدة”، والابتكار الرائد: أسواق وسائل الإعلام الجديدة في العصر الرقمي”، وأخيرا “السعي للنمو: التعاون الإعلامي في جميع أنحاء العالم من أجل مستقبل أفضل“.
إذا جاز تشبيه عمل القمة بالحرب – حتى ولو على المستوى الفكري بين تيارين- ، تقليدي وحديث، إعلام ربما نطلق عليه قديم، وآخر متقدم ومتدفق من الذكاء الاصطناعي، فالمنتصر هو الإعلام قلبا وقالبا بغض النظر كونه تقليدا أو حديثا، فما تم مناقشته خلال فعاليات القمة صب في مصلحة الإعلام.