مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: في حُب “جابر جامع”

بعد جُمعةٍ بالتمام والكمال من قراءتك هذا المقال _ عزيزي القارئ _ (والجمعة في عُرفنا بالقرية تعني أسبوعًا)، أي يوم الجمعة ٦ ديسمبر ٢٠٢٤م، يترك أستاذي بالمرحلة الابتدائية (جابر جامع) الطباشير والسبورة والفصل؛ إذ يصل إلى سن التقاعد من الوظيفة التي خاض سِنِيَّها بِشَرَف، وكان من بين أبرز المعلمين الذين أثَّروا فيَّ وفي جيلي، بدليل أنني أكتب عنه الآن. كانت دُفعتُنا بمدرسة (الأمريكان) بقريتي (سنباط _ غربية) هي (أول بَخْته) في التدريس، وكان هو (مِن بَختنا)؛ فالمُعلم الذي يَعِي أن له رسالةً وتأثيرًا داخلَ وخارجَ الفصل، وأنَّ دورَه لا يَقتصِرُ على شرحِ المنهج الدراسي فقط… مِثْلُ هذا المُعلم (رِزق)، وقد كان رزقُنا واسعًا إذ حبانا الله بـ (جابر جامع).

هل سمعتَ بيتَ الشعر الذي قال فيه الشاعر العباسي “أبو تمام” (188هـ _ 231هـ):

فَقَسا لِتَزدَجِروا، وَمَن يَكُ حَازِمًا // فَليَقسُ أَحْيَانًا وَحِينًا يَرحَمُ

ربما تكون قد سمعتَه في مسرحية (إنها حقًّا عائلة محترمة) التي عُرِضَتْ لأول مرة عام 1979م للرائع الأستاذ “فؤاد المهندس” (6 سبتمبر 1924م _ 16 سبتمبر 2006م) على لسان ابنِه الصغير (جاد الله) الطفل (أحمد عبد الله نصر)، والذي قال شَطَرَهُ الثاني برواية: (فَلْيَقْسُ أحيانًا على مَن يَرْحَمُ)!! هذا البيتُ يَنطبق على مُعلمي (جابر جامع)؛ فإن الأبَ أو المُعلمَ قد يقسو أحيانًا على الصغيرِ في سِن التنشئة ليُقَوِّمَه ويَغْرِسَ في نفسِه ما يَجهلُ الصغيرُ حِكْمَتَه ولن يَعْرِفَ قِيمَتَه إلا في الكِبَر، عندئذٍ تكونُ القسوةُ هي عينَ الرحمة، وتكونُ مُغَلَّفَةً بأرَقِّ المشاعر، وما لم يفعل ذلك، شَابَ الأطفالُ على ما شَبُّوا عليه، وما شَبُّوا عليه لن يكونَ حينئذٍ للأدبِ والذوقِ والأخلاقِ فيه نصيب!!

درَّسَ لنا مُعلمي (جابر جامع) في الصفين الرابع والخامس الابتدائي، فعَرَفنا على يديه قَصَصَ الأنبياء وحفِظنا ” يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ” ( مريم _ 12 )، إذ كان يقولُها للطفل (يحيى) وهو الأخُ الصغير لزميلتنا (نجلاء) كلما جاء لها في الفصل، ثم يحكي لنا قصة سيدنا “يحيى” عليه السلام!! وحفِظنا معه أيضًا “قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ… ” ( طه _ 97 )، ويحكي لنا قصة سيدنا “موسى” عليه السلام، و (موسى السامري):

فمُوسى الذي ربَّاهُ جبريلُ كافرٌ // ومُوسى الذي ربَّاهُ فرعونُ مُرْسَلُ!!

وكانت الحكاياتُ مُكافأةً لنا على التزامِنا في الحصة، فكنا نلتزمُ ونسمع.

لا أزال أذكرُ هذه الحكايات، وأذكرُ تمثيلَه لنا كيف تكون هيئةُ الركوعِ في الصلاة، فالرِّجْلانِ مفرُودتان، واليَدانِ على الرُّكْبَتَين، وأصابِعُ اليدَين بينهما تفريج، والظَّهْرُ مبسوط بحيث إنْ وضعتَ فوقَه كُوبًا لما انزلق، والرأسُ غيرُ مرفوعةٍ ولا مُنَكَّسة. ولم تَخْلُ أيامُنا مِن (صلاةِ جماعة) في المدرسة، ومِن لَعِبِ كرة القدم في فنائها (الحوش كما كنا نسميه) فيُعلمنا الرُّوحَ الرياضية، لم تَخْلُ أيامُنا مِن أنْ نجتمعَ على طعامٍ واحدٍ في رمضان أو في غير رمضان، فيُعلمنا آدابَ الطعام، لم تَخْلُ أيامُنا مِن النصائح التي تتعلقُ بالنظافة الشخصية، وكان هذا أمرًا مهمًّا، فيقول لنا مثلًا: (في الصيف لازم تستحموا كل يوم)!! لم تكن هذه التعاليمُ من بابِ الترف حينئذٍ؛ فبعضُ البيوتِ أو كثيرٌ منها لم تكن تُلقي بالًا لمِثل هذه الأمور، فإنْ لم ينتبه المُعلمُ لها أيضًا لحدثتْ كارثةٌ بيئيةٌ حياتية!! (أنت تتحدث في عصر وبيئة التليفون الأرضي وقتها كان عزيزًا)!!

كان يأتي من قريتِه (كفر السحيمية) _ التي تبعدُ عن قريتِنا (سنباط) نحوَ خمسة كيلو مترات _، راكبًا دراجتَه المشهورةَ بيننا، _ والتي ظلَّتْ وَفِيَّةً له أكثرَ من عشرين عامًا _، ولا يبدو عليه التعب، فهو سعيدٌ بالرسالةِ التي يُؤديها وبِالأثَرِ الذي يُحْدِثُه، ولعلَّ هذه الخطوات تكون شاهدةً له عند رب العالمين، حين يَقِفُ بين يَدَيْهِ مُقَدِّمًا عَمَلًا أخلصَ فيه فاستحقَّ الأجرَ عليه!!

اختلفتْ نوعيةُ الطالب، واختلفتْ نوعيةُ المُعلم، وزادت أعباءُ الحياةِ مع تطورها، ولستُ أدري إلا شيئًا واحدًا أن المُعلمَ يحتاجُ إلى مزيدٍ من التكريم _ المادي والأدبي _ ليحيا حياةً طيبةً تَليقُ بالرسالةِ التي يَحملها، مزيدٍ من التكريم ليُبدعَ في تعليم نشءٍ هو مستقبلُ هذا البلد، إن كنا نريدُ له مستقبلًا مشرقًا!!

نسيتُ أن أخبرَكم أن أستاذنا _ متعه الله بالصحة والعافية _ مَرِضَ يومًا، واتفقنا على زيارته، فاشترينا (برتقال ويوسفي) واجبَ الزيارة، وركِبنا في صندوق سيارة (نصف نقل) للذهاب إلى بلدته، وقام أحدُنا بأكل نصف الكَمية خلال الزيارة!! كان الأستاذُ سعيدًا بهذه الزيارة، ولا نزال نسعدُ حتى اليوم حين نقتنصُ بعضَ الوقت _ وإن كان ذلك على فتراتٍ مُتباعدة _ فنزوره، لا نَحْمِلُ في أيدينا شيئًا، ولكننا نَحْمِلُ في قلوبنا مَوَدَّةً وعِرفانًا بالجميل. مُعلمي “جابر جامع”: سلامٌ عليك.

زر الذهاب إلى الأعلى