السيد خلاف يكتب: صفقة الغاز..اشتباك خفي

لم تكن صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل يومًا صفقة اقتصادية خالصة، بقدر ما كانت – ولا تزال – اشتباكًا خفيًا تتقاطع فيه حسابات الطاقة مع خرائط الأمن القومي، وتمتد خيوطه من غزة إلى إيران، مرورًا بسيناء وشرق المتوسط.
في كل مرة يشتعل فيها الإقليم، يعود هذا الملف إلى الواجهة، لا باعتباره اتفاق توريد أو إعادة تصدير، بل كـ سلاح سياسي محتمل، تحاول أطراف توظيفه وفقًا لموازين اللحظة.
ومؤخرًا، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مدعومًا ببعض الصحف العبرية ، تصوير الصفقة وكأنها تمنح تل أبيب قدرة على الضغط على القاهرة أو تهديد أمنها في الطاقة .
رواية صاخبة روج لها بنيامين نتنياهو .. لكنها لا تصمد أمام الأرقام، وإن كانت تكشف الكثير عمّا يدور في الغرف المغلقة ، الأرقام هنا لا تكذب لكن السياسة تراوغ .
تصريحات وزير البترول المصري المهندس كريم بدوي جاءت لتعيد ضبط بوصلة الجدل، حين أكد بشكل قاطع أن الغاز الإسرائيلي لا يمثل تهديدًا لأمن الطاقة المصري ولا أداة ضغط، موضحًا أن نسبته لا تتجاوز نحو 17% من احتياجات السوق المحلي، وهي نسبة جرى تعويضها بالفعل من مصادر بديلة دون أي اضطراب يُذكر.
وبالمعنى الاستخباري المباشر :لا يوجد اختناق، ولا زر خنق، ولا مفتاح كهرباء بيد إسرائيل ،لكن هذا لا يعني أن الملف “منزوع الدسم “سياسيًا، أو أن الصفقة معزولة عن محيطها الجيوسياسي .
إذا ..لماذا يبالغ نتنياهو؟ .. والسؤال هنا ليس لماذا الصفقة بل لماذا تضخيمها؟
نتنياهو لا يخاطب القاهرة، بل يخاطب: داخلًا إسرائيليًا منقسمًا، ومعارضة تحذّر من تصدير غاز محدود الاحتياطي،
ورأيًا عامًا قلقًا من أسعار الكهرباء، في ظل اعتماد نحو 70% من محطات الكهرباء الإسرائيلية على الغاز.
الصفقة، في هذا السياق، ليست إنجاز طاقة بقدر ما هي درع سياسي داخلي ، والحقيقة التي يجري تجاهلها عمدًا أن إسرائيل لم تدخل الصفقة من موقع قوة: لأن احتياطياتها تكفي لنحو 20 عامًا فقط،ولا تمتلك محطات إسالة، ولا تملك أي مسار تصدير اقتصادي فعلي سوى البنية التحتية المصرية.
والمعلومة الأخطر – والمتطابقة مع التقدير الاستخباري – أن الصفقة لم تكن مطلبًا مصريًا أصلًا، بل جاءت تحت:
ضغوط أمريكية مباشرة في عهد إدارة ترامب، لخدمة مصالح شركة شيفرون، المشغّل الرئيسي لحقل ليفياثان، بعدما انسدّت أمامها كل البدائل الأخرى.
وبعبارة أدق: مصر لم تُسحَب إلى الصفقة، بل استُخدمت كمنصة لا غنى عنها ، وتأتي غزة لتنقل صفقة الغاز من الطاقة إلى النار، وهنا يغادر الملف مربع الاقتصاد ويدخل قلب الأمن.
وغاز غزة، وتحديدًا حقل مارين، يظل العقدة الأخطر في كل ترتيبات الغاز الإقليمية، فقد حاولت إسرائيل أكثر من مرة ربط هذه الترتيبات بتسويات تتجاوز الحقوق الفلسطينية، لكن القاهرة رفضت أي استغلال إسرائيلي منفرد للغاز الفلسطيني.
فالحرب على غزة أعادت هذا الملف إلى الواجهة، ورفعت حساسيته إلى أقصى حد، لأن أي توتر في غزة يمثل ورقة ضغط محتملة على خطوط الغاز، وأي تصعيد واسع يعني اختبار مباشر لتوازن الردع في شرق المتوسط.
ورغم ذلك، تظل الحقيقة الثابتة أن عنق الزجاجة مصري، يتمثل في الإسالة وإعادة التصدير، لا في الاستخراج فقط ، وتأتي سيناء ” خط التماس الصامت” في قلب الصفقة ليرسم بعد أمني بالغ الحساسية ، فخطوط الأنابيب تمر في نطاق أمني مُحكم، ما يعني أن أي عبث أمني يُعد تجاوزًا لخطوط حمراء، وأي ضغط غير محسوب قد يفجّر الإقليم بأكمله.
ولهذا، ورغم كل الضجيج لم ولن تُستخدم الصفقة يومًا كسلاح ضد مصر، وتدخل إيران بإنتاجها من الغاز داخل حسابات الحرب الكبرى ،وفي ظل أي تصعيد مع إيران فإن
أوروبا تبحث عن بدائل طاقة،
وواشنطن تضع تحجيم الغاز الروسي في صدارة أولوياتها، وغاز شرق المتوسط – المار عبر مراكز الإسالة المصرية – يصبح جزءًا من هذه الاستراتيجية.
لكن في الوقت ذاته، أي حرب إقليمية واسعة قد تعطل الملاحة الدولية، وهنا تتحول البنية التحتية المصرية من عبء محتمل إلى ميزة استراتيجية فاصلة ، والصفقة ، إذًا، ليست على هامش الصراع مع إيران، بل مضمّنة داخله.
ولنا أن نسأل..ماذا لو استغنت مصر عن الغاز الإسرائيلي؟ حتى في هذا السيناريو فإن الصفقة لا تفقد قيمتها، بل تتحول إلى ربح صافٍ عبر التسييل وإعادة التصدير، بينما يعني تعطيلها تعطيل إدكو ودمياط، أي تجميد بنية تحتية كلّفت الدولة مليارات الدولارات ، وهنا تكمن المفارقة الكبرى: الصفقة ليست ضرورة، لكنها أداة نفوذ.
ومن هنا جاءت تصريحات وزير البترول صحيحة فنيًا، لكنها لا تنفي الحقيقة الأعمق من أن صفقة الغاز ليست تهديدًا لمصر، وليست خضوعًا لإسرائيل، بل اشتباك مصالح مُدار بدقة عالية ، وفي هذا الاشتباك: مصر تمسك بالبنية،المتمثلة في مركز الإسالة، وإسرائيل تبحث عن منفذ، وواشنطن تضبط الإيقاع.
أما الغاز، فلا يُقاس بالمليارات فقط، بل بقدرته على إعادة رسم خطوط النفوذ في شرق المتوسط ، في إقليم يعيش دائمًا على حافة الاشتعال.










