إميل أمين يكتب : جابوتنسكي ونظرية ” الجدار الحديدي”

تستدعي أحداث قيام بعض المستوطنين اليهود بإحراق منازل وسيارات مواطنين فلسطينيين في قرية الجبعة، إستحضار روح الرمز الصهيوني الأشهر زئيف جابوتنسكي ، ذلك المفكر الذي ستقود خطوطه الذهنية إسرائيل إلى ما هي عليه في حاضرات أيامنا.
في مؤلفه المثير المعنون ” الجدار الحديدي..إسرائيل والعالم العربي”، لمؤلفه المؤرخ اليهودي العراقي الأصل”آفي شلايم “، نرى أن الأثر الأكبر والأخطر الذي تركه جابوتنسكي من خلفه، هو رؤيته القاضية بضرورة تنفيذ المشروع الصهيوني خلف جدار من حديد يعجز السكان العرب المحليون عن هدمه .
ولعله من المضحك والمبكي في ذات الوقت، أن نموذج جابوتنسكي لم يعارض فتح حوار مع الفلسطينين في مراحل تاليه . بل على العكس كان يؤمن أنه وبعد أن يشج الفلسطينيون رؤوسهم بلا جدوى في هذا الجدار سيقررون مع الوقت بأنهم في وضع دائم من الضعف ، وعندها يحين أوان تدشين مفاوضات معهم حول وضعهم وحقوقهم القومية في فلسطين .
يمكن القطع بأن معطيات فلسفية وفكرية غربية، تركت أثرا واضحا على فكر جابوتنسكي فقد تبني افكار الكثير من الفلاسفة أمثال “توماس هوبز” و” نيتشه “، كما تاثر بالفكر الدارويني والفاشي.
كان من جملة هذه الأفكار التي يحملها ما عبر عنه في إحدى خطبه بقوله :” كل إنسان أخر على خطا ، وأنت وحدك على صواب ، لا تحاول أن تجد أعذارا من أجل ذلك، فهي غير ضرورية ، وهي غير صحيحه، وليس بوسعك أن تعتقد بأي شيء في العالم، إذا أعترفت لو لمرة واحدة، أن خصومك قد يكونوا على صواب لا أنت، فهذه ليست الطريقة لتحقيق أي أمر ، لا توجد في العالم إلا حقيقة واحدة ، وهي بكاملها ملكك أنت “.
لم تكن فكرة الجدار العازل الذي بنته إسرائيل قبل عشرين عاما ، أو جدار الفصل العنصري مع الفلسطينيين، أمر جديدا أو مفهوما حديثا، فهي مترسخة في الوجدان اليهودي ، وقد كان جابوتنسكي زعيم ما يسمى ” الصهيونية المراجعية أو التنقيحية Revisionist Zionism ، تلك التي يسير على دربها حزب الليكود في الأوقات الراهنة، هو أول من نادى بإقامة ما سماه بالحائط أو الجدار الحديدي، وقد كان منطلق رؤيته أن آية تجربة إستيطانية استعمارية لابد أن تواجه مقاومة السكان الأصليين ، فلا يوجد شعب تنازل طواعية عن أرضه لشعب أخر ، وأن حل هذه الإشكالية هو أن يقيم المستوطنون الصهاينة حائطا أو جدارا حديديا حول أنفسهم ويستمرون في البطش بالسكان الأصليين إلى أن يسلموا بأنه لا مفر من التنازل وإقتسام الأرض مع الكتلة البشرية الوافدة .وهذه هي الفكرة نفسها التي عبر عنها شارون بعد ذلك بعقود ، عندما قال ” إن ما لا يؤخذ بالقوة، يؤخذ بمزيد من القوة”.
في رأى آفي شلايم أن سيناريو الجدار حدث في الواقع، وجاء تاريخ دولة إسرائيل تأكيدا لإستراتيجية الجدار الحديدي لجابوتنسكي ، غير أن مخاطر تلك الإستراتيجية ، حسب شلايم ، تمثلت في وقوع الزعماء الإسرائيليين في غرام مرحلة محددة منها ، ليرفضوا التوصل إلى السلام مرارا وتكرارا ، حتى عندما توفرت الأيدي الممدودة على الجانب الأخر .
يعطي شلايم بعدا مثيرا أخر لنظرية جابوتنسكي، وهي أنها في أحد أبعادها، ولو بشكل غير واضح تحمل نظرية لتغيير العلاقات اليهودية الفلسطينية ، وتقود عند نقطة زمنية معينة إلى المصالحة والتغايش السلمي، فإن أنصار اليمين الإسرائيلي ، حملة إرث جابوتنسكي، كانوا أكثر ميلا للوقوع في أسر الجدار الحديدي وتبنيه وسيلة دائمة للحياة، فعلى سبيل المثال تلخص فهم إسحق شامير للجدار الحديد، على أنه حصن في وجه التغيير ووسيلة للإبقاء على الفلسطيين في حالة خضوع دائم لإسرائيل .
هل كانت رؤية جابوتنسكي للجدار الحديدي، تتجاوز الطرح المادي الملموس، وتمتد لتأسيس نوعا من أنواع الإيديولوجيا التي ستقود لاحقا دولة إسرائيل عسكريا وسياسيا ؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، والعهدة هنا على الكثير من تصريحات كبار قادة إسرائيل ، من سياسيين وعسكريين على حد سواء .
قبل خمسة أعوام وتحديدا في عام 2019كتب عاموس يدلين ، رئيس الإستخبارات العسكرية سابقا ، ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي تحت عنوان :” الخط الذي يربط بين الجدار الحديدي ، والعقيدة الأمنية المعاصرة لإسرائيل” يقول :” إن المقال الكلاسيكي لزئيف جابوتنسكي ، تضمن اساسا ترتكز عليه النظرية الأمنية لإسرائيل.
ويضيف :” بصفتي رئيس معهد تراث بن غوريون ، قررت أن من الصحيح أن أعود لأقرا من جديد مقال جابوتنسكي ” الجدار الحديدي”، ويتحتم علي القول أن العقيدة الأمنية لبن غوريون في سنوات الخمسينات والستينات ، أرتكزت على أسس عقيدة الجدار الحديدي، وهذا صحيح ، بالرغم من أن جابوتنسكي أعتبر خصما إيديولوجيا لبن غوريون في تلك الفترة “.
هل يمكن إعتبار جابوتنسكي الأب الروحي لبنيامين نتانياهو؟
مؤكد هو كذلك ، وهذا ما يقطع بأننا أمام رجل لا دالة له على السلام والجسور، بل على الخصام والجدران.










