راندا الهادي تكتب : الزغرودة

تقليد متوارث بين النساء في البر المصري ، لم يفشل يومًا في استدعاء البهجة والفرحة إلى القلوب ، سواء كان في عُرس أو نجاح دراسي أو تولي منصب مهم ، ومع اقتراب أشهر مواسم إطلاق الزغاريد مع دنو ظهور نتيجة الثانوية العامة ، أردت أن أعرفكم عن قرب على هذه الشعيرة الصوتية الإجتماعية وهي الزغرودة ، وكيف استمرت كل هذه السنين كعادة اجتماعية للتعبير عن الفرح ليس في مصر فحسب وإنما في العالم العربي كله .
الأصل اللغوي لكلمة (الزغرودة ) هو الفعل الرباعي زغرد ومعناه رفع النساء صوتهن في الأفراح، وأصله زغرودة البعير، أي ترديده الصوت في حلْقه، وهديره به، وجمع الزغرودة، زغاريد، والزغرودة لدى العامة هي الحنجرة، وتدعى جوزة الحلق وكل ذلك يعود لترديد الصوت في الحلق عبر تواتر وانسجام واضحين.
ولو لم تكن مطلق الزغرودة فمجرد سماعها عند المصريين فأل خير ، وكانت في الماضي خاصة الأحياء الشعبية تشبه النفير الذي يستدعي القريب والبعيد للمشاركة في الفرح والانبساط ، بل وكانت السيدات تهديها كنوع من الدعم والمساندة لصاحبة الفرح ، لا أحد يعرف بدايتها بالتحديد ، لكن الكاتبة كاترين بجريدة النهار العربي ذكرت أن الزغرودة بدأت منذ العصر الجاهلي ، حيث استخدمتها النساء لرفع الروح المعنوية لديهن وقت المعركة.
أما عالم المصريات وسيم السيسي فقال: عادة الزغاريد بدأت في مصر حين رحل الملك “سقنن رع الثاني”، لتحرير مصر من الهكسوس، فودّعته نساء مصر بالطبول والزغاريد ، في حين تقول رواية ثالثة تذكر أن أصل الزغاريد يعود إلى الموروث الشعبيّ الهندي، فالهنود اعتقدوا أنّ الزغرودة تطرد الطاقة السلبية من الجسم وتمنع الحسد .
ورغم تضارب الروايات حول أصل هذا السلوك الاجتماعي ، ستبقى الزغرودة أبلغ تعبير عن الفرح الذي لا تحتويه كلمات ، غير أن اللطيف عند بداية كتابتي عن الزغاريد وجدت أن هذه الكلمة تدل في الموروث الشعبي الشامي على مقاطع لفظية منغمة تشبه الشعر الحر إلى حدٍ ما ، تغنيها السيدات بعد إطلاقهن للزغاريد الصوتية ومنها في فضل الأسمر على الأبيض :
أسمر السمر أهلكك عيروني فيك
وكل ما عيروني زاد حبي فيك
أنت الحبق عالطبق وأنا الندى بسقيك
وأنت القمر بالسما وأنا النجم برعيك
لذا لم يكن من الغريب أن تحمل عدد من مؤلفات التراث الشعبي الشامي كلمة زغاريد على غلافها ، لجمع وتأصيل هذا التراث الشعبي والحفاظ عليه من الضياع مع تغير المجتمعات ومرور العقود .
ويحضرني هنا المشهد العبقري للمخرج السوري مصطفى العقاد في نهاية فيلم عمر المختار عندما قام الجيش الإيطالي بإعدامه بواسطة حبل المشنقة وأخذ جثته بحيث يدفن في مقبرة غير معروفة، وقفت النسوة الليبيات يزغردن بقوة تعبيراً عن فرحتهن بعمر المختار لنيله مرتبة الشهادة .