مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: محنة العقل السلفي!

0:00

هل العقل السلفي قادر على التجديد والابتكار، أم أنه عقل عاجز متكاسل إلى حد التخاذل، ومجرد عبء على الإنسانية، أم هو خرافة لا وجود له في الواقع، أم هو من سَقَط المتاع؟
فى كتاب: «هكذا يفكر العقل السلفي»، لمؤلفه الدكتور «نور الدين أبولحية»، الصادر عن «دار الأنوار للنشر والتوزيع»، نلتمس الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها؛ بما يرسم صورة حقيقية ومنطقية للعقل السلفي؛ بعيدًا عن ثياب الخديعة وسربال المكر وقناع الدهاء!
باديء ذي بدء..يتناول الكتاب- من خلال أدلة ووثائق وبراهين تاريخية وواقعية- اللَبناتِ التى يقوم عليها المنهج السلفي فى التفكير، حيث حصرها المؤلف فى سبعة جامعة مانعة.
أولها: الرجال، لا الحقائق؛ فالعقل السلفي ينطلق من صناعة أصنام- بحسب وصف الكتاب- يتلقى عنها كل حقائق الدين، ويسلم لها تسليمًا مطلقًا.
وثانيها: الحشو، لا التحقيق؛ حيث يجمع العقل السلفي كل ما رُوِى عن سلفه من متناقضات، ويُسلم بها جميعًا.
وثالثُها: الرواية، لا الدراية؛ فالعقل السلفي يهتم بالحفظ، أكثر من اهتمامه بالفهم، ويهتم بالرواية أكثر من اهتمامه بالتحقيق.
ورابعُها: التوهم، لا التعقل؛ حيث إن العقل السلفي -نتيجة بنائه الروائي- يعتمد في تفكيره على الخيال؛ ولهذا حوَّل العقيدة التنزيهية إلى عقيدة تجسيمية تصويرية يتسنى له فهمها.
وخامسُها: الحسية، لا المعنوية؛ فالعقل السلفي يُغلب الجسد على الروح، والشهوة على العقل!
وسادسُها: الشدة، لا اللين، أو القسوة بدل الرحمة، أو العنف بدل الرفق، وهو ناشيء من غلبة السبعية على الإنسانية، وغلبة العدوانية على السلمية فى العقل السلفي!
وسابعها: المدنس، لا المقدس؛ فالعقل السلفي يختلط لديه المدنس بالمقدس، ويصعب عليه التمييز بينهما؛ ولذلك يسلم لهما جميعًا!
يُخطيء كثيرٌ من الباحثين فى نظرتهم للظاهرة السلفية، حين يقصرونها على مجرد سلوكيات ومواقف وأفكار متشددة، قد يتبناها بعض الناس فى مرحلة من حياتهم، أو فى كل حياتهم؛ نتيجة فَهمٍ مُتطرف للدين، فهذه نظرة سطحية محدودة- كما يقول الكتاب- لا تمثل الواقع السلفي، ولا تستطيع بهذا التحديد أن تفهمه، ولا أن تعالجه أو تتعاطى وتتماهى معه.
إذا كان الفلاسفة يعتمدون «العقل المُجرد» لدراسة الظواهر المختلفة، سواء كانت مُجردة أو حسيَّة لفهم الوجود، وكيفية التعامل معه، وإذا كان المتكلمون يحاولون التوفيق بين «العقل المجرد» و«النص المقدس» لفهم حقائق الوجود، وإذا كان الصوفية يعتمدون تجريد الباطن ليصبح محلاً صالحًا لتنزل حقائق الوجود، فإن للسلفية منهجَهم المغاير تمامًا لكل هؤلاء، والمتصادم مع العقلانية والإنسانية.
العقل السلفي يختلف اختلافًا جذريًا عن العقل الفلسفي والعقل الكلامي، لأن كليهما يحاول أن يبذل جهدًا فكريًا للوصول إلى الحقائق، سواء باعتماده على «العقل المُجرد»، أو مزجه بين «العقل المجرد» و«الوحى الإلهي».
أمَّا العقل السلفي فلا يطيق مثل هذا الجهد، وليس لديه الآليات التي تسمح له بذلك، ولهذا نراه يعادي كلا العقلين، ويتهمهما بالهرطقة والزندقة، وهذا جانبٌ جليٌّ من جوانب المِحنة!
يبدو العقل السلفي أكثر العقول راحة، لأنه لا يحتاج سوى لمعرفة رجال السلف الذين يأخذ عنهم دينه، ثم يسمع ما ذكروا، ويحفظه، ويظل يردده، وبقدر حفظه لمقولات السلف بقدر تمكنه من الدين والعلم، وهو فى استقباله لما قال السلف لا يحتاج إلى عرض ما ذكروا على عقله المجرد الفطري- كما يفعل سائر الناس- لأن العقل حجابٌ وقيدٌ يحول بينه وبين الإيمان الذي يقتضى الاتباع المجرد، ما يعنى أنه «عقل بغبغائي» بامتياز.
بحسب الكتاب، فإن العقل السلفي يمزج بشكل عجيب بين المتناقضات؛ فهو يمزج بين «المقدس» و«المدنس»، وبين «الحقيقة» و«الخرافة»، ولا يشعر بأي تناقض بينها؛ لأن دوره هو الحفظ والسماع والرواية، لا التفكير والنقد والدراية، ويمكن التماس هذه التناقضات الرهيبة فى خطب مشايخ السلفيين، حيث يتبنون مرويات ضعيفة ومتهافتة ويُنزلونها منازل التقديس، ويُكفِّرون من يفكر فى مناقشتها.
السلفي الخالص- فى نظر عُتاة السلفية- هو الذي لا يفكر أبدًا، حتى إنه لا يتدبر القرآن الكريم؛ ليستنبط منه أنواع العلوم والفوائد، كما حضَّ القرآن الكريم وأمر؛ لأنَّ التدبر حِكرٌ على السلف الأول، أما الخَلفُ فليس له إلا أن يسمع ويطيع ويردد: «سمعنا وأطعنا»، لما يقوله جنرالات السلف الصالح، ولهذا لا يتميز سلفيٌّ عن غيره إلا بقدراته الخطابية واللغوية والعرض والطرح والبكاء والتباكي!
السلفيون ليسوا بعيدين عن التضليل والتكفير الذى يمارسه غيرُهم من التيارات الظلامية؛ لذا فإنهم يعتقدون ويروجون -كما ورد بالكتاب- بأنَّ جميع المسلمين هلكى إلا هم فقط دون غيرهم من أصحابهم، بل إنهم يتبادلون تهمة التكفير فيما بينهم، وكل حزب بما لديهم فرحون؛ لذا فإنهم لا يجدون حرجًا فى تكفير جميع المعتزلة والأشاعرة والماتريدية والإمامية والزيدية والإباضية وغيرهم من فرق المسلمين، ويمكن الرجوع فى هذه الإشكالية تحديدًا إلى كتاب: «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» للاستزادة.
يميل العقل السلفي أيضًا من لدن نشأته الأولى إلى استخدام العنف بمختلف وسائله مع المُخالف، سواء كان ذلك المُخالف عالمًا أو حاكمًا أو عاميًا بسيطًا، بل حتى لو كان ذلك المُخالف ممن أوصانا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بهم وبمودتهم والتمسك بحبلهم، فحملة الكراهية والانتقام والتشفي من هؤلاء جميعًا- بحسب الكتاب- لا تكاد تنتهي، وهى لذلك أصبحت عند خلفهم من الإرهابيين دينًا يتعبدون الله به، ولا يملكون إنكار ذلك أبدًا؛ فكتبهم وخطبهم وتسجيلاتهم كاشفة وفاضحة ودالة.
وإجمالاً.. فإن العقل السلفي يعيش أزمة حقيقية بسبب منهجيته الجامدة المتخشبة الصلبة، وصدق الله العظيم إذ يقول: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ، وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ».

زر الذهاب إلى الأعلى