مايسة السلكاوى تكتب : (قامات مصرية) طلعت باشا حرب -15

لا يمكن أن نتحدث عن القامات المصرية التى أثرت حياة المصريين سياسيا واقتصاديا وعلميا دون ذكر طلعت باشا حرب رائد الإقتصاد الوطنى ، ليس فقط لكونه مؤسس بنك مصر ، ولكن لنجاحه فى تحرير الإقتصاد المصرى من التبعية الأجنبية ، ليدحض فكرة المحتل من أن المصرى لا يعرف إلا الزراعة ولا يجيد الأعمال الصناعية والإقتصاد ، فأنشأ نحو 20 شركة تحمل اسم مصر بدءا من مصر للطباعة ومصر للغزل والنسيج ومصر للطيران وصولا إلى مصر لصناعة السينيما .
ولد محمد طلعت حرب عام 1867م بمنطقة قصر الشوق بحى الجمالية ،كان والده موظفا بالسكة الحديد ، تزوج فى سن صغيرة توفيت زوجته وابنه ،وله أربع بنات فاطمة وعائشة وخديجة وهدى . بعد أن أتم تعليمه بالمدرسة التوفيقية التحق بمدرسة الحقوق الخديوية وتخرج منها 1889م .
عمل مترجما بالقسم القضائى بالدائرة السنية ثم أصبح رئيسا لإدارة الحسابات ثم مديرا لمكتب المنازعات ثم مديرا لقلم القضايا .
انتقل ليعمل مديرا لشركة كوم امبو بمركزها الرئيسى بالقاهرة وفى الوقت نفسه مديرا للشركة العقارية المصرية التى عمل على تمصيرها حتى أصبحت غالبية اسهمها للمصريين ، ووضحت ميوله وتحيزه للفلاحين والفقراء حينما نجح فى سعيه إلى بيع أراضى الدائرة السنية عند تصفيتها إلى الفلاحين القائمين على زراعتها . حصل طلعت حرب على البكوية 1905م واستقال من شركة كوم امبو 1909م.
فى عام 1910م قدمت شركة القنال طلبا للحكومة المصرية بمد امتياز قناة السويس 40 سنة أخرى ، إلا أن الحركة الوطنية بقيادة محمد فريد شنت هجوما قاسيا على هذا الطلب وحشدت الرأى العام ضده ، ومن جانبه أصدر طلعت حرب كتاب “قناة السويس ومصر” أوضح فيه الحقائق كاملة عن تاريخ القناة وكيف ضاعت حصص مصر من الأسهم والأرباح وخسائرها ، وبالفعل نجحت كل هذه المجهودات ورفض مجلس النواب طلب المد .
أعلن طلعت حرب عن فكرته بضرورة إنشاء بنك للمصريين فى كتابه ” علاج مصر الاقتصادى وإنشاء بنك للمصريين” الذى أصدره 1911م ، وفى العام نفسه عقد المؤتمر الوطنى للنظر فى مشكلات مصر الإجتماعية ، فانتهزطلعت حرب اجتماع أعيان مصر وكبرائها وعرضت لجنة المؤتمر الفكرة ، وقرر المؤتمر بالإجماع ضرورة إنشائه برؤوس أموال مصرية ، وإختيار طلعت حرب للسفر إلى أوروبا لعمل دراسة متكاملة عن البنوك الوطنية وأسلوب عملها فى الدول الأوروبية . وبعد الإنتهاء من الدراسة وتقديمها اقتنع الجميع بالفكرة وقرروا تنفيذها . ولكنها أرجئت لإندلاع الحرب العالمية الأولى ، ثم كانت ثورة 1919م والتى شارك فيها طلعت حرب بدعوته للمصريين إلى الكفاح ضد سيطرة الأجانب على مقدرات مصر الإقتصادية ،ومن هنا عادت فكرة إنشاء بنك مصر .
استطاع طلعت حرب إقناع 126 من المصريين بالإكتتاب لإنشاء البنك بمبلغ 80 ألف جنية تمثل 20 ألف سهم بقيمة اربع جنيهات للسهم الواحد ،ثم تم توقيع عقد التأسيس بين ثمانية مصريين من ال126 مساهما وهم أحمد باشا يكن ويوسف قطاوى باشا وطلعت حرب بك وعبد العظيم المصرى بك والدكتور فؤاد سلطان وعبد الحميد السيوفى أفندى وإسكندر مسيحة أفندى وعباس الخطيب أفندى ، وفى 13 أبريل 1920م نشرت الوقائع المصرية مرسوم تأسيس شركة مساهمة مصرية تسمى “بنك مصر” وفى 13 مايو تم إفتتاح البنك رسميا فى أول مقر له فى شارع الشيخ أبو السباع ، وبدأت رحلة تمصير الإقتصاد المصرى .
لم يقتصر دور البنك على الخدمات البنكية بل توسع ليشمل إنشاء 20 شركة تحمل اسم مصر فبعد سنتين فقط أنشأ طلعت حرب أول مطبعة مصرية لدعم الفكر والأدب وتقوية المقاومة الوطنية ،ثم توالت الشركات ومنها شركة مصر للنقل البرى وشركة النقل النهرى ومصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وتم ارسال بعثات للعمال والفنيين للتدريب بالخارج ،ومصنع لحلج القطن فى بنى سويف وشون بجميع المحافظات ،ولتشجيع الثقافة والفنون انشأ شركة للتمثيل والسينما وأستوديو مصر ، وفى 1927م أنشأ شركة مصر للنقل والملاحة ومصر لأعمال الأسمنت المسلح ومصر للصباغة ومصر للمحاجر والمناجم ومصر للمستحضرات الطبية ومصرللتجارة وتصنيع الزيوت ومصر للألبان والتغذية ومصر للكيماويات ومصر للتأمين وشركة بيع المصنوعات المصرية وفى 27 مايو1932م صدر مرسوم ملكى بإنشاء شركة مصر للطيران وهى أول شركة للطيران فى الشرق الأوسط برأس مال 20 ألف جنية وبعد عشرة أشهر إرتفع إلى 755 ألف جنية .
أقنع طلعت حرب المصريين بفكرة الإدخار بالبنوك وزادت ودائع البنك ، وحتى تترسخ فكرة الإدخار لدى الأطفال قام بتوزيع “حصالات” على تلاميذ المدارس الإبتدائية ثم يأخذ ما فيها ويفتح لهم دفاتر توفير بالبنك . كما حرص البنك على مساعدة صغار الحرفيين والصناع ، وتشجيع شركات المقاولات المصرية ودعمها ماليا لكسر احتكار الأجانب لهذه المشروعات .
تطلع طلعت حرب إلى الأقطار الشقيقة ، فزار بلاد الحجاز فأسهم فى استكمال مستشفى جدة ومكة ، كما أسهم فى تأسيس مرفق الاسعاف ، وكانت العملة الحجازية تعانى من الإضطراب صعودا وهبوطا فى مواسم الحج نتيجة اسعار صرف العملات الأجنبية ، مما دفعه لإقناع الحكومة بقيام البنك بتحصيل تكلفة الحج دفعة واحدة قبل سفرهم ثم تحصل القيمة دفعة واحدة على أساس قاعدة الذهب مما أسهم فى استقرار العملة ، كما تم تأسيس بنك مصر-سوريا -لبنان -وبنك مصر- فرنسا فى باريس 1936م .
رغم كل هذه الإنجازات إلا أن البنك تعرض لأزمة مالية كبيرة سنة 1939م ، لكن فى الواقع كان الإنجليز وراء تلك الأزمة ، فبالطبع تسارع المودعين فى سحب ودائعهم وزادت الأزمة بسحب صندوق توفير البريد لكل ودائعه من البنك ، ورفض البنك الأهلى إقراضة بضمان محفظة الأوراق المالية ، فذهب طلعت حرب لوزير المالية لحل المشكلة وكان حسين سرى باشا لكنه اشترط لحل الأزمة أن يتقدم باستقالته ، فما كان من طلعت حرب إلا أن استقال حفاظا على هذا الإنجاز العظيم الذى قدمه للمصريين . ومن أقواله المشهورة” ما دام تركى حياة البنك .. فلأذهب أنا وليعيش البنك”. توفى طلعت باشا حرب فى 21 أغسطس 1941م بعد أن حقق لمصر نهضة اقتصادية هائلة وأثبت للعالم أن المصرى قادر على إدارة أعماله بمفردة دون حاجة إلى الوصاية الأجنبية .