مايسة السلكاوى تكتب : (من السيرة النبوية ) الغزوات والسرايا – 5

بعد صلح الحديبية بدأ رسول الله صل الله عيه وسلم بإرسال الرسل والوفود إلى الأراضى المجاورة ليدعوهم للإسلام ويعرفوهم به ،وكان من ضمنهم الحارث بن عمير الأزدى فقد بعثه النبى رسولا إلى ملك بصرى بالشام يدعوه إلى الإسلام ،فما كان من شرحبيل بن عمرو الغسانى ملك بصرى ويمثل القيصر، إلا أن قتله ، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم ويعتبر إعلان حالة الحرب .
غضب رسول الله صل الله عليه وسلم لهذا التصرف ،فكان أول رسول له يقتل ، فجهز جيشا من ثلاثة الأآف مقاتل وهو أكبر جيش للمسلمين بإستثناء غزوة الخندق . فكانت غزوة مؤتة فى العام الثامن للهجرة وتعتبر أول غزوة خارج حدود الجزيرة العربية صمد فيها ثلاثة آلاف مقاتل مسلم مقابل مأتى ألف من الروم والقبائل العربية الحليفة لهم على مدى ستة أيام كاملة . هذه الغزوة لم يخرج بها رسول الله صل الله عليه وسلم ، واختار للقيادة ثلاثة أمراء بالترتيب : زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبى طالب ثم عبد الله بن رواحة .
سار المسلمون حتى نزلوا قرية “معانا”من أرض الشام فبلغهم أن “هرقل” قد نزل “مؤاب” من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليه مائة ألف أخرى من القبائل العربية الموالية له منها قبائل لخم وجذام ويلقين وبهراء . فانضم لهرقل مائتى ألف مقاتل . فعقد المسلمون مجلسا للتشاور فقال بعضهم نكتب للنبى صل الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا فإما يمدنا بالرجال و إما أن يأمرنا بأمره فنمضى له ،وقال آخرون قد وطئت البلاد ،وأخفت أهلها فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيئ ،والتزم عبد الله بن رواحة الصمت ،فسأله زيد عن رأيه فقال : يا قوم والله إن الذى تكرهون للذى خرجتم له تطلبون الشهادة ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة ولا كثرة ،ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة . فقالوا صدق والله بن رواحة فمضوا حتى إذا قاربوا البلقاء بالشام لقيتهم جيوش هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها “مشارف”، وانجاز المسلمون إلى قرية يقال لها “مؤتة” وتسمى الآن “الكرك” بالأردن .
فتجمع المسلمون وتجهزوا وجعلوا على ميمنة الجيش قطبة بن قتادة من بنى عذرة وعلى الميسرة أنصارى يقال له عبادة بن مالك . والتحم الفريقان ودار القتال بشراسة ، وكان زيد بن حارثة أول من استشهد من قادة المسلمين ، فأخذ الراية جعفر بن أبى طالب بيمينة فقطعت يمينة ثم أخذها بشماله فقطعت فاحتضنها بعضديه حتى قتل ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل ثم أخذها ثابت بن الأرقم ثم ثعلبة الأنصارى ، وقال للناس اصطلحوا على رجل منكم فقالوا أنت ، فقال ما أنا بفاعل فأصطلحوا على خالد بن الوليد .
وحينما تولى خالد بن الوليد (سيف الله المسلول) قيادة الجيش قام بعمل عسكرى رائع يدل على ذكاء وقيادة فذة ، فأراد أن ينقذ المسلمين من المأزق الذى ألم بهم ، ورأى أن الحل هو الإنسحاب ، بعد إرهاب العدو وإيهامه بوصول إمدادات له ، واستغل الليل لتغيير مراكز الجيش فحول الميسرة ميمنة والعكس والمؤخرة مقدمة والعكس ، وطلب من الخيالة اصطناع غبار وجلبة قوية فظن الروم أن المسلمين جاءهم مدد ، فخارت عزائمهم لهذا التكتيك العسكرى ،واشتد عليهم المسلمون حتى قال خالد بن الوليد : لقد انقطعت فى يدى يوم مؤتة تسعة آسياف (سيوف) فما بقى فى يدى إلا صفيحة يمانية ! .
وهكذا نجح ابن الوليد فى العودة بالجيش إلى المدينة بأقل خسارة ممكنة وقتل أعداد كثيرة من الأعداء، وكان فى ذلك نصر كبير للإسلام والمسلمين .
شعر الرسول عليه الصلاة والسلام بالخطر من تحركات مريبة تقوم بها قبيلة قضاعة لمحاصرة المدينة والهجوم عليها . وذلك بعد عودة المسلمين من مؤتة بوقت قصير جدا فى السنة الثامنة للهجرة ،فاستدعى النبى ، عمرو بن العاص وكلفه بقيادة ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا وأمره بأن يستعين بمن يمر به قبائل بلي وعذرة وبلقين ، فقال له رسول الله صل الله عليه وسلم : ” إنى أريد أن ابعثك على جيش ،فيسلمك الله ويغنمك ،وأرغب لك من المال رغبة صالحة ” فأجابه عمرو قائلا : يا رسول الله ،ما أسلمت من أجل المال ولكنى أسلمت رغبة فى الإسلام وأن أكون مع رسول الله صل الله عليه وسلم .
سار جيش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص إلى أن وصلوا لبئر يقال له”السلسل” بينه وبين المدينة عشرة أيام ، ومن هنا جاء اسم “سرية ذات السلاسل” وهى سرية مهمة، فإنها كسرت عصا تمرد بعض القبائل العربية الموالية للروم ، وكانت سببا فى إسلام الكثير من أهالى بنى مرة وبنى ذبيان ودخول غيرهم فى حلف مع المسلمين ، و بفضلها مكنت المسلمين من بسط هيمنتهم على شمال الجزيرة العربية .
تواردت الأنباء إلى عمرو بن العاص بالأعداد الكبيرة التى سيواجهونها ، فأرسل رافع بن مكيث الجهنى إلى النبى صل الله عليه وسلم ،يستمده ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواء ، وبعث معه مائتى من المهاجرين والأنصار وفيهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأمره بأن يلحق بعمرو ، وأن يتوحدا ولا يختلفا ، وبالفعل أراد أبو عبيدة تولى القيادة فقال له ابن العاص أنما قدمت على مددا وأنا الأمير ، فأطاعه أبو عبيدة .
وجه جيش المسلمين ضربات مؤلمة على قضاعة ومن معها ، وقتل منهم الكثير فلم يطل صمود الأعراب فبادروا بالفرار .