راندا الهادي تكتب : ابن العصر الأخير

احترت في اختيار عنوان لهذا المقال لكثرة الألقاب التي حظي بها من سأكتب عنه ، فهو( ابن العصر الأخير )للثقافة العربية الإسلامية ، و(صاحب العلامة ) وهذا لقب يطلق على ثالث رجل في ترتيب الأهمية بالنظام الملكي بعد الوزير والحاجب، وهو (المالكي )لتمكنه في هذا المذهب وتدريسه له ، وهو (الجد الأعلى) لعلماء الاجتماع على مستوى العالم ، كما أنه( صاحب المقدمة ) ، بالطبع عرفتوه ، إنه العلامة أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون.
ماذا أقول عن ابن خلدون وإسهاماته التي لا تعد ولا تُحصى ، فقد جمع المعرفة والعلم من أطرافها ، فقه وسيرة ، جغرافيا واجتماع، تاريخ وفلسفة ومنطق، شعر وأدب ، سياسة وإدارة دول ، رحالة لا يهدأ ، لدرجة أن وصفه البعض( بالظل )، فهو جوارك وبعد سويعات يغادرك .
ومع أهمية السيرة الذاتية لهذا العلامة ، -وهنا يجب أن نذكر أنه واضع ومؤسس علم السير الذاتية ، كما أنه أحد القلائل وقتها الذين دونوا سيرتهم بأنفسهم – ، اخترت أن اتحدث عن الإنسان ابن خلدون ، لأنه حالة تدعو للتفكير والتدبر ، فقد ولد في تونس عام ١٣٣٢ ميلادية الأول من رمضان عام ٧٣٢ من الهجرة ، مات والداه بمرض الطاعون وهو يبلغ من العمر ١٨ عامًا ، تاركين ابن خلدون وشقيقين ، أحدهما أكبر منه والآخر أصغر .
تخيلوا معي شاب من أسرة راقية علمًا ونسبًا ، تعود في النسب إلى الصحابي الجليل وائل بن حجر ، أحد بطون اليمن العريقة ، وحيدًا في تلك العمر ، ذا جاه ومكانة ، يختار حياة العلم والسياسة ويختزل أمنياته في ترك بصمة لمن هم بعده ، ورغم وفاة زوجته وأبنائه الاثنين غرقًا في البحر ، خلال رحلة ذهابهم من تونس للقاهرة لملاقاته ، لم يفقد شغفه ولا قرر الانعزال بل سعى واجتهد وألف الأمهات من الكتب ، مؤكدًا للأجيال من بعده أن المرء نتاج ما يعمل ، وأن الابتلاءات جزء أصيل من الحياة الدنيا ، واقعٌ لا محالة ، وما يميز أحدنا عن الآخر هو كيفية استقبال تلك الابتلاءات ، ابن خلدون استغل اقترابه من السلاطين والملوك في إثراء قريحته العلمية وليس خزانة أمواله ، وصفه معاصروه بأنه كان صعب المقادة، قوي الجأش، يعوزه حسن التأني، ولعل الأخيرة هي من أسكنته السجون وغياهب الاعتقال فترات من حياته .
ولمن ينكر مكانة ابن خلدون رحالة الشرق والغرب ، ومؤسس علم الاجتماع ، أقول له بعضًا مما قاله مشاهير الغرب عنه ، من أمثال” تارد” أو المستشرق “غوبينو ” و” كارادوفو” في كتاب (مفكرو الإسلام ) : إنه “الجد الأعلى” للعلماء الاجتماعيين المحدثين، أو كارل ماركس الذي اتخذ مقدمته نواة لكتابه ( رأس المال ) ، أو رونالد ريجان الرئيس الأمريكي الأسبق الذي أشاد بعبقرية مؤلفاته في تحليل نشأة الأمم ، توفى ابن خلدون عام ١٤٠٦ ميلادية الخامس والعشرون من رمضان عام ٨٠٨ هجرية، ودُفِنَ بإحدى مقابر الصوفية خارج باب النصر بالقاهرة في اتجاه الريدانية (العباسية حديثا)، ولا يُعرَف الآن على وجه اليقين أين يقع قبره.