مقالات الرأى

رأفت السويركي يكتب: دونالد ترامب “السياسوي حين يكون مُهَرِّجَاً”… قراءة مغايرة!!

0:00

ليس لدي الاعتقاد بأن الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” يمثل ظاهرة تصيب بالحيرة؛ حيث أنه كثيراً ما يدعو للسخرية من تصريحاته وخطاباته؛ ظناً بأنه من مهرجي “الرأسمالية الإمبريالية”؛ فمن لا يقرأ “المسكوت عنه” و”المضمر” في خطابه ولا يُعمِل عقله قد يسقط في هذا الفخ؛ على الرغم من بروز تأثيرات السمات الفردانية الشخصية في طبيعة حضوره؛ والتي يجري توظيفها في إطار آداء دوره السياسوي الإمبراطوري الأميركي الجديد.
إن “الخريطة الحركية واللفظية” الترامبية العاكسة لنمط سماته الفردانية؛ تكشف عن طبائع التوظيف السياسوي لدى ماكينة التفكير السيادية الأميركية؛ والتي تتخير دوماً الشخصية/ الواجهة المناسبة للمرحلة المندرجة في سياق الأجندة الأساس للاقتصاد السياسوي الإمبريالي.
والأمر الواجب الاهتمام به أن القيام بالاختيار الشعبوي الأميركي المتمثل في الناخبين، يكون محكوماً بمعطيات يجري تجهيز الساحة الأميركية للاستقرار عليها عبر التحزبات والمعطيات والتشوقات؛ بما يلامس حاجات الناخب الشعبوي الأميركي، ولكنه في الوقت ذاته يُلبي تحقيق المستهدف الحقيقي لأجهزة الدولة الأميركية المحكومة بتثبيت الهيمنة على العالم.
فكل رئيس تَمَقْعَدَ (مِنْ قَعَد) في البيت الأميركي عبر “المُجمع الانتخابي” أو” مجلس النواب” في الولايات المتحدة، كان نتاج سيناريوهات عميقة؛ تبيع ما يمكن تسميته “شِيِبْسِي الديموقراطية” لتقرمشها النخب الغوغائيوية في العالم وهي تتغافل أو بتعبير أدق تتغابى عن إدراك خصوصيات بِلدانها والتحديات المحيطة بها حين تلوح بأعلام تلك اللُّعبة الأميركية؛ وكأن الولايات المتحدة الأميركية هي “جنة الله” في أرضه، والتي ليس بها فقراء وشحاذون وتمييز عرقي وعنصرية طالت السكان الحقيقيين لتلك الأرض، وأيضاً بعض من يقيمون في أرضها.
ما لا ينبغي التغافل عنه عند القيام بتفكيك “المنطوق الترامبي” إذا صَلُحَ هذا التخصيص؛ هو وجود بنية عميقة وراسخة؛ تتولى توظيف ذلك الشخص المسؤول (الواجهة) في إطار برمجياتها وبرامجها لتحقيق مستهدفاتها “السياسو/اقتصادوية” والتي تحرك كل الشخوص على وجه الأرض؛ والمحكومة بقيمة الرِّبحوية المادية وفق قراءات الاقتصاد السياسوي.
“دونالد ترامب” لا يمثل “قفزة أو طفرة جينوية” مفاجئة في التركيبة الغربية؛ وإنما يُعَدُّ انتقالةً كميةً وكيفيةً في نمط النهج الرأسمالوي المهيمن تاريخانياً؛ والتي لم يَعُدْ كوكب الأرض مطمحها الأخير حسب تركيبة فريقه المتشكل من “رجالات البيزنس”؛ ولكن بالقفز الكوكبي إلى خارج سياقها (المريخ أنموذجاً)؛ محكومة بالشره والجشع المخيف لتحقيق الربحوية الثرواتية، لمزيد من الامتلاك الخاص للرأسمالوي في صورته الفردانية وكذلك النظامية؛ مع الأخذ في التقدير أصولية هذه الرأسمالية (العِرقية والعَقَدية المُتصهيِّنة)!
إن قراءة ذلك التطور النوعي والتاريخي للنمط الرأسمالوي المتغلب عبر الأنموذج الرئاسي الأميركي؛ بَدْءَاً من القائد العسكريتاري المستوطن “جورج واشنطن” أول رئيس فيدرالي أميركي (1789م)؛ ثم التبادل بين “الجمهوري” و”الديموقراطي” تؤكد على منطقية ذلك الحضور الترامبي الراهن؛ لأنه يحقق ما يُراد أن يحققه خِدْمةً للنمط الرأسمالوي، وهو يطرق أبواب “القفزة العولمية” التي لم ينتهِ مشروع تعميمها بعد.
لذلك فمن الضروري إدراك أن اختيار أيّ رئيس للولايات المتحدة الأميركية لا يكون خبط عشواء؛ وإنما الأمور يجري تقنينها وتنظيمها وفق “منهج العقل المركزي الإمبريالي المتفكر”؛ والمحكوم بكافة العلوم التي وصل إليها هذا العقل في معامله ومراكزه وجامعاته وأجهزته المعلوماتية؛ والتي تضع السيناريوهات المحكمة، وسيناريوهات المتغيرات الملبية لكل التطورات المباغتة لتحقيق الهيمنة عليها وإدراجها في إطار منظومتها لتحقيق مستهدفها الكلي.
إن أي رئيس أميركي لا يمثل بذاته بصمة فكرانية متفردة؛ وإنما هو الواجهة لتطبيق مشروعات مراكز ومكاتب التفكير والدراسات الاستراتيجية العميقة في الدولة الأميركية؛ سواء كان سياسوياً أو عسكريتارياً أو مصْلِحَاً أو محامياً أو ممثلاً سينمائياً أو رجل أعمال أو مقاولاً؛ باختلاف طبيعة مهنهم الاقتصادوية وثرواتهم الدولارية وأصولها البنيوية.
لذلك فما نرى إليه من مسلكيات دونالد ترامب الراهنة؛ وقبلها في فترته الرئاسية السابقة لا تنفصل عن هذه القراءة الواجبة؛ ولا تثير حالة من السخرية أو الإخافة؛ وإنما من الوجوب رصف ما يقوم به في إطار ذلك النهج الرأسمالوي الإمبريالي الأميركي.
** فما تلويحاته فور فوزه بمقعد البيت الأبيض بالتراجع عن الاتفاقات الدولية (اتفاقية باريس للمناخ أنموذجاً)؛ وتهديد المنظمات الدولية (المحكمة الجنائية الدولية أنموذجاً)؛ والتلويح بالانسحاب من التحالفات التاريخية (الاتحاد الأوروبي والناتو أنموذجاً)؛ إلاَّ لعبة ممارسة الضغوط كمحاولة لتحقيق بعض المكتسبات الداعمة لجهود إصلاح الاقتصاد الأميركي المنهك؛ وإبراز منهجية الرأسمالي في السعي لمزيد من الربحية الفاحشة مقابل القليل من الأعباء.
** وما خطواته في إطار ما اصطلح على تسميته بـ “الحروب التجارية” التي يزمع خوضها؛ وفي مقدمتها الضريبة الجمركية على البضائع الواردة من كندا والمكسيك والصين ـ على الرغم من معرفته بردود الأفعال المنتظرة من هذه الدول ـ بمخاطر دفع الأسعار للارتفاع في الولايات المتحدة؛ ومشكلات منع كندا صادرات النفط والكهرباء؛ لكنها جزء من اللعبة التي يبدأ ممارستها سياسيويا؛ ظناً أنها تخدم الاقتصاد الأميركي عبر مسلكية التفاوض المحكومة بنهج الجلوس على طاولة المفاوضات لمزيد من اكتساب المنافع.
** إن من نهج اللعبة الترامبية هو اجتراؤه على المساس بسيادة “كندا”؛ الدولة المجاورة حين يناور وكأنه مشفق عليها فيقول:”يُحُبُّ العديد من الناس في كندا أن يصبحوا الولاية الأميركية رقم 51. لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تتحمل العجز التجاري الهائل والإعانات التي تحتاجها كندا لتبقى واقفة على قدميها”.
** ويستكمل آلاعيبه حين أعلن رغبته في ضم “جزيرة غرينلاند” إلى الولايات المتحدة؛ وإجبار الدانمارك على ذلك حتى باستخدام القوتين العسكريتارية والاقتصادوية؛ نهماً للاستفادة من موقعها الاستراتيجي المهم للنظام الأميركي؛ إذ تقع تلك الجزيرة على أقصر طريق من أوروبا إلى أميركا الشمالية، بثرواتها من المعادن المستخدمة في البطاريات، وهي الجرافيت والليثيوم والعناصر الأرضية النادرة المستخدمة في المركبات الكهربائية ومولدات طاقة الرياح؛ وكذلك النفط والغاز الطبيعي؛ ويستند ترامب إلى المعلومات التي قُدمت له بقياسات الجغرافيا البحرية التي تكشف أن عاصمتها “نوك” أقرب إلى “نيويورك” من العاصمة الدنماركية “كوبنهاجن”!!
وكل هذه التصريحات الطريفة في ظاهرها والتي لا ينطق بها رجل سياسة دبلوماسوي تقليدي؛ تكشف طبيعة العقلية الترامبية بالمحركات الدفينة لأنظمة الدولة الأميركية العميقة حين تقدمه لبدء مرحلة جديدة من العمل الإمبريالي؛ تقوم على استخدام “المباغتة” و”المساومة” المحكومة بالنرجسية المتضخمة؛ والأكثر تحديداً بالعقلية التجارية الساعية لتحقيق أقصى الربحية من قراراته. فكافة الأمور لدى ترامب قابلة للشراء والبيع والاستحواذ بطريقة مباشرة؛ وبالتعبير الشعبوي (من غير لفِّ ودوران)!!
** ونأتي إلى مربط الفرس الراهن في موضوع “غزة” والذي يمثل قمة تجليات الذهنية الترامبية التجارية؛ متجاوزة ثوابت التاريخ الراسخة وانتهاز الحالة ليواصل مشاهده المثيرة للالتفات، بقوله بعد اجتماعه المسرحي مع الصهيوني”نتنياهو”:”الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة، ونتوقع أن تكون لنا ملكية طويلة الأمد هناك، وسنتحمل مسؤولية إزالة القنابل غير المنفجرة والأسلحة، وتسوية المنطقة، وهدم المباني المدمرة، إضافةً إلى توفير فرص عمل للشباب وتنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة في غزة؛ كما أن قطاع غزة يمكن أن يصبح ريفييرا الشرق الأوسط بعد إعادة تطويره.”
** وحين يعلن ترامب محاولته شراء غزة وامتلاكها فإنه يؤكد “نسق التاجر” أو “رجل الأعمال” باعتماده “الممارسات الفورية” على الرغم من إدراكه بكل المقاييس أن عرضه سيتم رفضه قلباً وقالباً؛ فلسطينياً وعربياً ودولياً؛ لمجافاته للحقائق؛ واعتباره تكريساً لمسلكٍ استعماريٍّ مُصابٍ بالهَرِم. لكن عقلية التاجر تظن أنها يمكن أن تشتري ما تريد وبأيِّ ثمن. وفي حقيقتها أنها تقدم نفسها قِنَاعَاً سيقوم بتسليم قطاع غزة بقدة وقديده إلى دولة الكيان بعد تهجير أهل الأرض وإسكانهم في أراضٍ بديلة!
ويكشف ترامب بأسلوبه غير التقليدي في الرئاسة الأميركية حقيقة تصريحه الصهيوني بقوله اللاحق: ” إن إسرائيل ستكون مسؤولة عن مراقبة الأمن هناك؛ وستسلم قطاع غزة إلى الولايات المتحدة عند انتهاء القتال، وإن الفلسطينيين سيعاد توطينهم في مجتمعات أكثر أمنا”. وهذا التصور يندرج في إطار المتوهم الصهيونوي الراسخ “من النيل إلى الفرات”؛ والجاري تنفيذه على مراحل مستمرة لا يقف أمامه سوى مصر العظيمة وجيشها العملاق بعد انتكابات العراق وليبيا وسوريا واليمن.
وهنا يؤكد دونالد ترامب “أجندته الصهيونية” الدالة على عقليته المتصهينة منذ فترة رئاسته الأولى حين اعترف مجافياً للحقائق وطبيعة عُرف السياسة الأميركية نفسها قبل مجيئه بـ “القدس عاصمة لإسرائيل” في ديسمبر/ كانون الأول 2017 م؛ فضلاً عن دعم التوجهات الصهيونية واعتبار “المسجد الأقصى” مكاناً مُقدساً لليهود.
وفي إطار “الرأسمالية الصهيونية” التي أعلنها سابِقُه “جو بايدن” حين قام بطرح خُطة ما عُرف بـ “صفقة القرن” في العام 2020م التي تضمنت ما يتعارض بإجحاف مع حماية الحقوق الفلسطينية، يأتي دونالد ترامب لاحقاً فيواصل المخطط ذاته بأسلوب يوصف بالعنصرية تجاه الفلسطينيين، فضلاً عما قام به سابقاً بتقليص المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية وقطع العلاقات معها.

ولا تزال الأيام المقبلة والسنوات التالية ستكشف الكثير والطريف عن “نمط السياسة التهريجية” المقصودة في صورتها الترامبية الجديدة والمجسدة للقول عن دونالد ترامب “السياسوي حين يكون مُهَرِّجَاً”… في هذه القراءة المغايرة!!

زر الذهاب إلى الأعلى