مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: ما تبقاش حنبلي!!

من العبارات الدارجة على ألسنتنا العبارة الاستفهامية: (أنت حنبلي؟!) أو أختها التي تُصاغ على أنها نصيحة (ما تبقاش حنبلي)، وتُطلق على الشخص الذي يتشدد في أمرٍ ما، ويُصر على رأيه فقط، ولا يلتفتُ لآراءِ غيره، حتى وإن كانت سليمة، ولا تجد المرونةُ إليه سبيلًا!! ولفظة (حنبليّ) تعود إلى مَن ينتسب إلى مذهب الإمام “أحمد بن حنبل” (164هـ _ 241هـ) رابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة. العبارة تعني إذًا أن الإمام “أحمد” _ رضي الله عنه _ كان متشددًا، وهكذا جاء مذهبه!!

سألتُ يومًا لماذا يُتهم مذهب الإمام “أحمد بن حنبل” بالتشدد وهو من نبع الإسلام دينِ اليُسر الذي لا يَعرفُ التشددَ إلا عند أصحابِ العقول الضيقة، والإمامُ ليس منهم؟! وكانت الإجابة: إن تلاميذَ الإمام تمسَّكوا بتعاليم الدين السمحة في عصرٍ تسيبَ فيه كثيرون، فنُعِتُوا بالتشدد من أولئك المُتسيبين!! وفي عصرنا على سبيل المثال نجد أن المُتسيبين على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة يكسبون أكثر، فهل يعني هذا أن ننحَى منحاهم؟!

ليست الحنبليةُ إذًا مرادفًا للتنطع الدينى، بل هي على العكس تمامًا، فالمذهبُ الحنبلي أكثرُ المذاهب توسعًا ومرونةً فى الفروع، وقواعدُه تُغَلِّبُ حُكْمَ الإبَاحَة، وَتُقَلِّصُ مِسَاحَةَ التحريم. نجد في القواعد الفقهية للمذهب مبدأ (الأصل فى العادات والمعاملات الإباحة، والأصل فى العبادات الوقف والحظر)، بمعنى أن كل ما يخص شؤونَ الناس ومعاملاتِهم المالية والاجتماعية وغيرَها، الأصلُ فيه أنه مباح وحلال وجائز، ما لم يأتِ دليلٌ يَنُصُّ على تحريمِه، مُدللًا بأن ما سُكِتَ عنه فهو عفو، هذا المبدأ له أثر كبير فى تعزيز مساحة المباح داخل المذهب، وتغليب المرونة الفقهية فى التعامل مع المستجدات، ومن هذا الأصل قواعد فقهية كثيرة، أهمها وأكبرها قاعدة اليقين لايزول بالشك، وهى قاعدة فقهية كبرى بين جميع المذاهب، لكنها وجدت ازدهارًا وثراءً عند الحنابلة، وتفرعت عنها قواعد فقهية كثيرة مثل: الأصل براءة الذمة، الأصل بقاء ما كان على ما كان، الأصل فى الأشياء الإباحة، الأصل فى العقود الصحة، الأصل فى الصفات العارضة العدم.

ومن دلائل التيسير في مذهب الإمام “أحمد” مثلًا:
_ في أَبواب الطهارة، القول بطهارة بول وروث مأكول اللحم، ولولا هذا لضاق الأَمر، وكثر الحرج، لاسيما على الدائس، والحالب (من يدوس في روث البهائم ومَن يقوم بحلبها).
_ في العقود والشروط، الأصلُ هو الصحة، وهذا يفتح حريةَ المتعاقدين في إِبرام العقود والشروط، بناء على هذا الأَصل، وتستمر في التوسع ما لم تصادم نَصًّا.
_ في أبواب الفُرقة من النكاح يقول إن “الخُلع فسخ لا طلاق”لذا، لا يَنْقُصُ به عَدَدُ الطلاق، وفي هذا تضييق لدائرة الفِراق، كذلك فمذهبه يحكم بالفسخ، لعدم النفقة والوطء، وفي هذا إِبعاد عن وقوع الضرر على النساء.
_ وفي الوقف: يقول بجواز وقف الإنسان على نفسه مدة حياته، في إحدى الروايتين عنه، وفي هذا توسيع لدائرة عمل البر والخير.

ومن نظر في كتب المفردات في المذهب، رأى فيها من التيسير ورفع الحرج ما يلتقي مع مقاصد الشريعة.

بقي أن أشير إلى أن الإمام “أحمد” وعى قيمته، وعلم أنه إن زلَّ فسوف يتبعه كثيرون لذلك تحمَّلَ الكثير فيما عُرف بمحنة خلق القرآن رغم أنه كان من الممكن أن يأخذ بالرخصة: ” مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ … ” ( النحل _ 106 )، لكنْ مِن شيم الكبار أن يُقدروا حجمَ المسؤوليةِ الملقاةِ على عاتقهم، وأن يكونوا دومًا عند حُسن الظن بهم.

زر الذهاب إلى الأعلى