مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: أشعار الإمام علي بن أبي طالب!!

أسرَف خطيبُ الجمعة في الاستشهاد بأقوال وأبيات شعرية منسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فسألته بعدما انفضَّت الصلاة وفرغ المسجد: وما أدراك أن الإمام عليًا نظم وصاغ ما نسبته إليه؟ فأجاب بكل ثقة: إنها موجودة في ديوان “نهج البلاغة” المنسوب إلى رابع الخلفاء الراشدين، فالتزمتُ الصمتَ؛ درءًا للخلاف والاختلاف.
لعلك صادفتَ أنت يومًا عند باعة الصحف والمكتبات هذا الديوان الشعري المذكور، ولعلك تطالع كلما تصفحت منصَّات التواصل الاجتماعى أقوالاً ومأثوراتٍ منسوبة إلى ابن عم الرسول الكريم، فهل كل هذه الأشعار والحكم والأقوال والمأثورات والمواعظ والرقائق قالها الإمام “علي” الذي عاش بين عامي 599 -661 ميلاديًا؟ ولماذا وحدَه دون غيره من صحابة النبى الكريم مَن سُجلت أقواله بين دفَّتي كِتاب، تتهافت دور النشر على طباعته؟
يُجمع كثيرٌ من الباحثين والدارسين على أنَّ ديوان “نهج البلاغة” -الذي بدأ جَمعُ محتواه بعد وفاة الإمام “علي” بـ350 عامًا كاملة، لا يحتوي على أي دليل يؤكد نسبته إليه؛ بل إنَّ عامة أبياته مجموعة من كتب الأدب والأسمار والمواعظ التي تخلو من أسانيدَ تثبت نسبتها إليه، وكثيرٌ منه يُستبعد نسبته إليه. هذا الحُكمُ هو الذي تتابعَ عليه الباحثون والدّارسون لهذا الديوان الذي تعاقبت على طبعه، خواتيم القرن الماضي، عديدٌ من دور النشر العربية، ومعظمها إيرانى وبيروتي!
يقطعُ خير الدين الزركلى: بأنَّ “ما يرويه أصحاب الأقاصيص من شعر، وما جمعوه منسوبًا إلى الإمام علي، فإنَّ معظمه، أو كله مدسوسٌ عليه». فيما يقول عبدالرحمن المصطاوي، وهو أحد الذين اعتنوَا بطباعة الديوان: «لعلَّ كلمة الزركلي هذه في شعره رضي الله عنه هي الأقرب إلى الحقيقة؛ ذلك لأنَّ معظم شعره، رضي الله عنه منسوب إليه أو منحول، كما يقول نَقَدة الشعر العربى”. فيما يُنوِّهُ نقاد شعريون آخرون إلى أن كثيرًا من الأشعار المنسوبة إلى الإمام تجدها في ديوان الإمام الشافعي رضى الله عنه، وعند غيره مثل: أبي العتاهية. ويدفع فريق ثالث بتفاوت القيمة الفنية للأشعار المنسوبة إلى الإمام، ما يؤكد أنَّ معظمها لا يخصُّه!
هنا يطرَحُ سؤالٌ مُهمٌّ نفسَه وهو: هل كان علي بن أبي طالب يُقرضُ الشعر أصلاً؟ ليُجيب جواد علي قائلاً: «يُروى لعلي بن أبى طالب شعرٌ كثيرٌ، ولا يوجد شكٌ في أنه -رضي الله عنه- كان مطبوعًا على قول الشعر، وأنه كان ذا شاعرية، وله مواهبُ تؤهله لنظمه، كما كان من الحُفاظ للشعر، وقد أورد له أهلُ الأخبار والأدب شعرًا ذكروه في المواضع المناسبة، كما جمع بعضُ الأدباء شعره في ديوان، فهو صاحبُ شعر نُظم في المناسبات»، مُردفًا: «غير أن عليًا لم يكن شاعرًا، بمعنى أنه اتخذ الشعر صناعة له، وإنما كان يقوله في المناسبة، ثم إنَّ في المنسوب إليه شعرًا كثيرًا، هو موضوعٌ، صُنِعَ وحُمِلَ عليه. وأكثر ما جاء في الديوان الذي يحمل اسمه هو من هذا القبيل».
نظرًا إلى ما لـعلي بن أبى طالب من المكانة في نفوس المسلمين، فضلاً عن مغالاة الشيعة فيه، فقد اهتم الناسُ بأمر ديوانه وبما هو منسوبٌ إليه عامَّة، وشرحوه شروحًا عديدة، وترجموه إلى لغات مختلفة، وطبع جُملة طبعات، بحيث نستطيع أن نقول دون مبالغة: إن “نهج البلاغة” نال من المكانة والتقدير، ما لم ينله أي ديوان آخر؛ ليس لما فيه من شعر أو من بلاغة، بل لحُرمة ولمكانة صاحبه، حيث أراد الشيعة تعظيم الإمام، رغم المكانة التي يحظى بها عند عموم أهل السنة، ففي هذا الديوان غثٌّ كثيرٌ، وفيه ما لا يمكن إرجاعه إليه أبدًا، بل إن أبا عثمان المازني ذهب إلى أبعد من ذلك عندما جزمَ بأنَّ عليًا لم ينشد من الشعر سوى هذين البيتين: تلكمُ قريشُ تمناني لتقتلني/ فلا وربّك ما برّوا وما ظفروا/ فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم/ بذات روقين لا يعفو لها أثرُ.
في مُعظم نسخ الديوان المُتاحة.. يرى المحققون أنَّ هذه النصوصَ لا يمكن التثبتُ من سند بعضها ونسبتها إلى الإمام رضي الله عنه؛ حيث يُعتقد أن بعضها نُسب إليه عن طريق الخطأ، أو ضاع من الجامعين دليلُه، فنُسِبَ النصُّ الواحدُ إلى اثنين أو ثلاثة، وهذا ما نراه في المتشابهات بين شعره وشعر الشافعي وغيره من الشعراء. كما يذهبُ البعضُ إلى أنَّ معظم ما جاء في أشعاره –رضى الله عنه- إن لم يكن منسوباً كان منحولاً وموضوعًا. والشعر الموضوع هو ما تمَّتْ صناعته بهدف نسبته إلى آخرَ، كما سنجد في الطبعات المختلفة للديوان أيضًا اختلافات من حيث الإبقاء على بعض النصوص وتصحيح نسبها وفقًا لرأي الباحث وطريقة تتبعه لمعلوماته.
ومما نُسبَ إلى الإمامين: علي والشافعي معًا: تَغَرَّبْ عن الأوطَانِ في طَلَبِ العُلَا وسافِر ففي الأَسفَارِ خَمسُ فَوائـدِ/ تَفَرُّجُ هـمٍّ، واكتِسَـابُ مَعِيشَـةٍ وعِلْمٌ، وآدابٌ، وصُحبَـةُ ماجـدِ/ فإنْ قيلَ في الأَسفـارِ ذُلٌّ ومِحنَـةٌ وقَطْعُ الفيافي وارتكـابُ الشَّدائِـدِ/ فمَوتُ الفتـى خيـرٌ لهُ مِنْ قِيامِـهِ بِدَارِ هَـوَانٍ بيـن واشٍ وحَاسِـدِ.
كما يُنسبُ إلى الإمام علي والشاعر الفذ أبي العتاهية معًا: لا تَأمَنِ المَوتَ في طَرفٍ وَلا نَفَسٍ وَإِن تَمَنَّعتَ بِالحُجّابِ وَالحَرَسِ/ فَما تَزالُ سِهامُ المَوتِ نافِذَةً في جَنبِ مُدَّرِعٍ مِنها وَمُتَّرِسِ/ تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها إِنَّ السَفينَةَ لا تَجرى عَلى اليَبَسِ.
وختامًا.. فإن “نهج البلاغة” ليس الكتاب الوحيد المنسوب إلى الإمام علي بن أبى طالب، رغم كل ما يشوبه من لغط وتشكيك وشبهات، بل إن هناك كتابًا ثانيًا يحملُ اسمه وتمت طباعته في العصر الحديث وهو أيضًا لا يحظى بمصداقية واسعة بين الباحثين والمدققين، وهذه آفة الثقافة العربية عمومًا؛ حيث إن الموضوع فيها أغزر من الصحيح، والمدسوس أكثر من الثابت!

زر الذهاب إلى الأعلى