د.أماني فاروق تكتب :رحلة البحث عن الذات: اكتشف نفسك في عالم مزدحم..
في إحدى صباحات الشتاء الباردة، جلست في أحد المقاهي المفتوحة، حيث يمتزج الهواء البارد برائحة القهوة الدافئة. أمامي دفتر وقلم، وذهني يتأرجح بين أمرين: هل أكتب في مجال الإعلام الذي يمثل صميم تخصصي وحياتي المهنية، أم أغوص في عوالم الإنسانيات وعلم النفس، تلك العوالم التي لا حدود لها؟ وبينما كنت أتأمل هذا السؤال وسط الصمت النسبي للمقهى، قررت أن أكتب عن النفس البشرية، تلك الرحلة العميقة التي تقودنا إلى اكتشاف ذواتنا وسط ضجيج الحياة.
نعيش اليوم في عالم تتلاحق فيه الأحداث كأنها أمواج لا تنقطع، حيث يمضي كل يوم كأنه سباق لا نهاية له. تتداخل الأصوات بين أزيز الهواتف وصخب المدن وضجيج التوقعات التي لا تنتهي. نسير بسرعة تفوق قدرتنا على التوقف والتأمل، نركض خلف الطموحات دون أن نتساءل: هل هذه الطموحات حقًا تعبر عنا؟ هل نعرف أنفسنا كما ينبغي؟
قد يبدو السؤال بسيطًا، لكنه يحمل أعماقًا أكثر مما نتخيل. في زحمة الحياة، ينسى كثير منا أنفسهم، ينساقون وراء التوقعات الاجتماعية أو السعي لإرضاء الآخرين. لكن ما قيمة كل هذا إذا كنا في أعماقنا نشعر بالضياع؟
تذكرت قصة شاب كان يقضي يومه بين العمل والدراسة ومواقع التواصل، ينجز كل ما يُطلب منه لكنه يشعر بفراغ غريب لا يفهمه. في لحظة صدق مع نفسه، قرر أن يكتب رسالة صغيرة لنفسه على ورقة: “من أنا؟ وماذا أريد؟”. لم يكن يتوقع أن هذه الكلمات البسيطة ستغير حياته. اكتشف أن صوته الداخلي كان يصرخ طلبًا للاهتمام، وأنه بحاجة إلى وقت للجلوس مع ذاته بعيدًا عن العالم.
لكن كيف يمكننا أن نبدأ هذه الرحلة وسط زحام الحياة؟ يكمن السر في التوقف والتأمل. ليس بالضرورة أن يكون التأمل معقدًا؛ يكفي أن نجلس في مكان هادئ لبضع دقائق كل يوم، نستمع لصمتنا الداخلي ونمنح أنفسنا مساحة للتنفس. أحد أصدقائي كان يبدأ يومه بالمشي في حديقة صغيرة بجوار منزله، بدون هاتف أو مشتتات، فقط هو والطبيعة. تلك اللحظات البسيطة منحت حياته صفاءً داخليًا افتقده لسنوات.
وربما تكون الكتابة المفتاح لبعضنا. هناك من يفتح دفترًا صغيرًا في نهاية كل يوم ويكتب فيه كل ما يشعر به دون قيود. الكتابة ليست مجرد كلمات تُسطر على الورق، بل هي مرآة للروح، تساعدنا على فهم ما نمر به وما نحتاج إليه.
لكن هذه الرحلة ليست دائمًا سهلة. بالنسبة لي، عندما بدأت هذه الرحلة، وجدت نفسي أسترجع لحظات من طفولتي ومراهقتي وبداية مرحلة الشباب، لم تكن هذه اللحظات سهلة بالتأكيد، ولم تكن مريحة في كثير من الأحيان، بل هي مزيج من السهولة والصعوبة، الفرح والسعادة والحزن والمرارة. كانت الذكريات تحمل تناقضات الحياة كلها، لكنها ساعدتني على فهم تصرفاتي اليوم بشكل أفضل. المواجهة قد تكون صعبة لكنها ضرورية، تمامًا كالنار التي تصهر المعادن لتصنع منها أدوات أقوى.
وفي ظل هذه الرحلة، لا يمكننا تجاهل تأثير الإعلام الرقمي على حياتنا اليومية. لقد أصبحت وسائل الإعلام الرقمية الجديدة تغمر حياتنا بكل تفاصيلها، تقدم لنا الأخبار، القصص، وحتى التواصل مع الآخرين. لكن وسط هذا الزحام الافتراضي، فقدنا شيئًا من حقيقة التواصل الإنساني. إن التفاعل عبر الشاشات، مهما بدا غنيًا، لا يمكنه أن يعوض دفء الحديث المباشر أو قوة المشاعر التي تُترجم بلغة الجسد.
كم مرة جلسنا في تجمع عائلي، وعيون الجميع معلقة على الهواتف؟ كم حديثًا قطعته إشعارات عابرة؟ الإعلام الرقمي أضاف أبعادًا جديدة لحياتنا، لكنه أخذنا بعيدًا عن لحظات التواصل الحقيقي. وهذا يزيد من أهمية رحلة اكتشاف الذات، لأنها تتيح لنا إعادة تقييم كيفية استخدامنا لهذه الوسائل، وكيف نجعلها وسيلة للتواصل بدلاً من أن تكون حائطًا يفصلنا عن العالم الواقعي.
وحين نصل إلى أعماق أنفسنا، نكتشف أن الحياة تصبح أكثر وضوحًا. قراراتنا، التي كانت تبدو معقدة، تصبح بسيطة لأنها تنبع من قيمنا الحقيقية. علاقاتنا تتحسن لأننا نعرف ما نريده من الآخرين وما نقدمه لهم.
في النهاية، ليست الرحلة إلى الداخل مجرد لحظات هدوء نقضيها بعيدًا عن العالم، بل هي استثمار في سعادتنا الحقيقية. في عالم مليء بالصخب والاتصالات الافتراضية، لا تنس أن تمنح نفسك وقتًا لتستمع إلى صوتك الداخلي. اجعل من كل لحظة فرصة لإعادة اكتشاف ذاتك، لأن أعظم الرحلات ليست تلك التي تقطع فيها المسافات، بل تلك التي تعبر فيها إلى أعماق نفسك.
إن هذه الرحلة ليست رفاهية أو هروبًا من الواقع، بل هي ضرورة لإنسانيتنا. فبين ضجيج العالم وصمتنا الداخلي، يكمن مفتاح السكينة التي نبحث عنها جميعًا.
ــــــــــــــ
مدير مزكر التدريب والتطويز – مدينة الانتاج الاعلامي