مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: “الأعلى للإعلام” و”القرآن الكريم”!!

لا خلاف على أن البرامج الدينية المُتلفزة تحولت في السنوات الأخيرة إلى مادة دسِمة مثيرة للجدل والسخرية؛ على خلفية ما تقدمه من محتويات سطحية ساذجة، لا تتقاطع مع الواقع في شيء. كما لا يخفى على أحد أن هذه البرامج لا هدف للقائمين عليها سوى جلب المال من خلال الإعلانات. أضِف إلى ذلك..رغبة معظم مقدمي هذه البرامج في “ركوب الترند”، من خلال طرح آراء شاذة وغريبة عبر الاستعانة بأحاديث موضوعة، ومرويات زائفة، وإسرائيليات كاذبة، أو الحديث بطريقة “أراجوزية”؛ لتحقيق أعلى نسبة من المشاهدات! وبعيدًا عن التسطيح والتزييف والتهريج..فإن بعضًا من هذه البرامج يتم تسييسه؛ بالشكل الذي يخرجه عن مساره وهدفه الأساسي!
لكل ما تقدمَ وغيرُه كثيرٌ، وما ذكرناه وذكره غيرُنا مرارًا وتكرارًا..تحرك المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مؤخرًا، وأصدر ما أسماه “ضوابط” بشأن البرامج الدينية التليفزيونية، وتطبيقها بدءًا من 11 يناير المقبل، ولكن هل هذه “الضوابط” قادرة علي تصويب مساراتها؟ الإجابة: قولاً واحدًا لا؛ والسبب أن ما اعتبره المجلس “ضوابط”، لا يتجاوز الشكل والإطار العام، متجاهلاً المضمون والمحتوى والعمق!
يمكن اختصار الضوابط المزعومة في بنود ثلاثة..هي: منع المداخلات الهاتفية على الهواء مباشرة من الجمهور، ومنع جميع الإعلانات بهذه البرامج، وتحديد مدتها! اكتفى المجلس “الموقر” بهذه البنود الثلاثة؛ متوهمًا أنه بذلك قد أدرك الهدف وحقق المراد؛ ولا شك أنه مخطيء في ذلك أشد الخطأ. وبالنظر إلى التشكيلة الحالية للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام..قد يزول الاستغراب، وتتبدد الدهشة، من هذا الطرح الهشِّ المتهافت الذي لن يُغير من الواقع البائس للإعلام الديني شيئًا مذكورًا.
تجاهل المجلس المذكور طبيعة مقدمي ومقدمات البرامج الدينية التي أصبحت ساحة مُستباحة لكل من هبَّ ودبَّ من معدومي العلم ومنزوعي المعرفة والباحثين عن الشهرة والمال بأقصر سبيل. ليس كل من اعتمر عمامة وارتدى جلبابًا يصلح لتقديم برنامج يُعلم الناس صحيح دينهم. القواعدُ من الممثلين والممثلات لا يصلحون لتقديم هذه النوعية الجادة من البرامج. المجلس –مثلاً- لم يحظر تقديم البرامج الدينية على المثقفين الكارهين للإسلام بالسليقة، كما حدث في فترة سابقة، عندما تم تمكين اثتين منهم لتقديم برنامجين ذوي طبيعة دينية، وكان الهدف هو التطاول على الإسلام: شريعة وتراثًا وعلماءً، وإثارة الجدل العقيم! ألم يكن جديرًا بالمجلس أن يسد هذا الباب أولاً؛ حتى لا نفاجأ بشخص فاشل دراسيًا، ومُدان قضائيًا، يتصدى لتجريح أئمة المسلمين؛ بزعم أن هذا هو التجديد المرغوب للتجديد الديني؟
كما لم تتطرق الضوابط إلى طبيعة الضيوف الذين يتم جلبهم لهذه البرامج، وكثير منهم يكون دون المستوى ومنتحل صفة! لم يُنبِّه المجلس إلى ضرورة رفع كفاءة طواقم إعداد هذه البرامج، من خلال الاستعانة بعناصر وكوادر متميزة. قبل عام تقريبًا..تناول أحد هذه البرامج قضية الطلاق، وحرصت مذيعة البرنامج، وهي تاجرة إكسسوارات بالأساس، على تصدير الحلقة بمأثور: “أبغض الحلال عند الله الطلاق”؛ باعتباره آية قرآنية، سبقتها بالبسملة، ثم صدَّقت بعدها، على طريقة الممثل الراحل عثمان عبد المنعم في فيلم “زوج تحت الطلب”، ورددتها كثيرًا أثناء الحلقة، ولما تواصلتُ معها بعد انتهاء البرنامج، وأخبرتُها بكل هدوء بأن هذا المأثور ليس قرآنًا ولا حديثًا، انتفضت وغضبت وراوغت وناورت، ثم حمَّلت في الأخير فريق الإعداد المسؤولية، لأنه من كتب لها هذه العبارة، باعتبارها آية قرآنية في “الإسكريبت”، وهي رددتها كما الببغاء! هذا نموذج وحيد من بين عشرات النماذج الضارخة والتي تموج جهلاً وغباءً، ورغم ذلك تعامى المجلس عنها!!
لو كان المجلس الأعلى لتتظيم الإعلام في مسعاه جادَّا لبدأ خطة الإصلاح من إذاعة القرآن الكريم التي تتجلى فيها كل الأخطاء والخطايا والتجاوزات، وأبرزها: الفواصل الإعلانية المطولة التي تلتهم المساحات المخصصة للتلاوات القرآنية المُجوَّدة..لماذا ألغى المجلس الإعلانات في البرامج الدينية، وأبقاها في إذاعة القرآن الكريم إذن؟!
يبدو أن السادة أعضاء المجلس لا يتابعون إذاعة القرآن الكريم، ولا يعرفون عنها ولا عن مشاكلها شيئًا مذكورًا. إصلاح الإعلام الديني كاملاً يبدأ وينتهي من إذاعة القرآن الكريم -التي غدت لأسباب كثيرة- مسخًا مشوهًا. تحولت الإذاعة الدينية الأقدم عالميًا إلى منصة إعلانية بحتة، تروج لسلع رخيصة، يسعى أصحابها إلى غسل سمعتهم من خلالها. الإعلان في إذاعة القرآن الكريم هو السيد وصاحب الكلمة المسموعة. الإعلان هو الذي يحدد مدد التلاوات المجودة. الإعلان هو الذي التهم الفترة الزمنية المحددة منذ سنين طويلة لتلاوة الشيخ محمد رفعت في الساعة السابعة من صباح كل يوم. الإعلان أصبح يسبق الأذان مباشرة ويعقبه مباشرة، ولم يبقَ إلا أن يتخلله ويقتحمه! الإعلانات في شهر رمضان 2025 سوف تتجاوز حاجز الـ170 إعلانًا، وهم رقم قياسي غير مسبوق، سوف يكون له مردوده السييء. إذاعة الأغاني ترفع شعار: “قليل من الكلام..كثير من الأغاني”، أمَّا إذاعة القرآن الكريم فترفع شعار: “كثير جدًا من الإعلانات..قليل جدًا من التلاوات..ولو كان عَجبك”!! ليست الإعلانات هي الوصمة الوحيدة في إذاعة القرآن الكريم، ولكنها الوصمة الأبرز والأشد وضوحًا، مناصفة مع برنامج الوزير المعزول!
أيها القاطنون في المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام..اعلموا إن لم تكونوا تعلمون، أن الإصلاح الحقيقي للإعلام الديني الهادف والخطاب الديني الرشيد ينطلق من إذاعة القرآن الكريم، فإن صَلُحت، صَلُحت أمور كثيرة، وإن فسدت –كما هي الآن- فسدت أمور كثيرة. أمَّا ما سميتموه “ضوابط للبرامج الدينية التليفزيونية”، فسوف يتم الالتفاف حولها بأسرع مما تظنون، ولن تساوي الحبر الذي كُتبِت به..ما هكذا تُورَد الإبل..ولا حتى الماعز!

زر الذهاب إلى الأعلى
Chat Icon