مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: سلسال القراء المكفوفين..”النادي” نموذجًا

0:00

يقف المرء مشدوهًا أمام إنسان سلبه الله نعمة البصر، لكنه تغلب على هذا المُصاب الجلل والفادح والأليم بحفظ القرآن الكريم وإتقان تلاوته وإحراز السَّبق والنبوغ فيه. دولة التلاوة المصرية عرفت في بداياتها سلسالاً عظيمًا من القراء المكفوفين، بل يمكن القول: إن عددًا لا بأس به من البُناة العِظام لأمجادها كانوا لا يبصرون، وإنَّ هذا –واللهِ- لشيء عُجاب. القارئان الخالدان: الشيخ على محمود والشيخ محمد رفعت كانا كفيفين، وهما من الرواد الأوائل لدولة التلاوة المصرية. القائمة تضم عددًا آخر من القراء العميان مثل: الشيخ محمود محمد رمضان والشيخ عبد العزيز علي فرج والشيخ محمد عبد العزيز حصَّان والشيخ أحمد أبو المعاطي..والشيخ محمد حسن النادي الذي تحلُّ ذكراه الثالثة والأربعون غدًا السبت الأول من يونيو، وكان قد رحل عن عالمنا في العام 1961 عن 38 عامًا فقط. ربما كان “النادي” أسبق أقرانه من القراء العميان إلى الموت. ورغم رحيله قبل 43 عامًا بالتمام والكمال إلا إن سيرته الطيبة لا تزال باقية. الموهبة الحقيقية تتحدى تعاقُب الأيام والسنين، بذا قضى الله وحكمت الأقدار..ولو كره الكارهون وتماكر الحاسدون..ومما يُذكر عن هؤلاء القراء العميان إتقانهم وعدم لحنهم أثناء التلاوة، كما يخطي قراء هذا الزمان من المبصرين على الهواء مباشرة، وهم يقرؤون من المصاحف المفتوحة!!
وُلِد محمد حسن النادي في العام 1923 كفيفًا، وعاش قليلًا، وسطَّر تاريخًا مجيدًا. حباهُ الله موهبة متدفقة، وصوتًا نديا خاشعًا، وقبولًا لا يُقاوَم. لم يكن “النادي” قارئًا عابرًا في سماء دولة التلاوة المصرية، ولكنه كان قارئًا ذا سَمت خاص، وشخصية متفردة، وطريقة مُثلى، وأداء استثنائي لا يتكرر، ولا يتقاطع مع غيره؛ ما كان سببًا في خلود ذكره حتى الآن. لم يستسلم الفتى الضرير ابن محافظة الشرقية لـ”مصيبة العمى”، وما أقساها، بل استقبلها في رضا تام، وتعامل معها كأنَّ الأصل أن يعيش الإنسان دون عينين مبصرتين، وشقَ طريقه في حفظ القرآن الكريم وأتمَّه قبل أن يُتمَّ عامه الثاني عشر، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره رحل إلى “التلين”، حيث أمضى عامين في تلقي علوم القراءات، وسرعان ما أصبح قارئًا معتبرًا، طبَّقت شهرته آفاق محافظته ومحافظات القناة.
في عام 1945.. كان “النادي” قد أتمَّ عامه الثاني والعشرين، فرحل من الشرقية إلى الإسكندرية، وعُينَ قارئًا بالمسجد العباسي. وذات جُمعة.. حضر الملك فاروق شعائر الصلاة واستمع إلى صوت القاريء الشاب، فأعجب به أيَّما إعجاب، ووجَّه باعتماده بالإذاعة، وكان ذلك في العام 1948، وكان “النادي” ابن 25 عامًا؛ ليكون واحدًا من أصغر القراء اعتمادًا في تاريخ الإذاعة المصرية التي تحتفل بعيدها التسعين اليوم الجمعة الحادي والثلاثين من مايو. هنا تجدر الإشارة إلى أن الملك “فاروق” كان ذا ذوق رفيع وحس راقٍ في الاستماع إلى مُحكم التنزيل، فلم يكن يستحسن ولا يُقرِّب إليه سوى الأصوات الطيبة المتفردة، فهو مَن اكتشف القاريء الأسطورة الشيخ مصطفى إسماعيل واختصَّه بعنايته وشمله برعايته، وغيره كثيرون.
ظل القارئ الشاب محمد حسن النادي بالإسكندرية خمس سنوات، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، ويكمل مسيرته الخاطفة، فتم تعيينه قارئًا للسورة بمسجد السيدة “نفيسة” رضي الله عنها وأرضاها بمدينة القاهرة، تزامنًا مع إبداعه الموسيقى الذي قاده إلى أن يكون عضوًا بمجلس إدارة المعهد العالي للموسيقى العربية..في مفارقة عجيبة وكاشفة لقدراته ومواهبه المتعددة، سوف نفصلها تفصيلاً في مناسبات مقبلة.
في سورة “يوسف” التي تبارى قراء أكابر في تلاوتها تجويدًا.. يقف “النادي” بأدائه مختلفًا ومتميزًا عمن سواه من السابقين أو اللاحقين، حتى يُشعرك -وأنت تتابع تنقلاته الخاطفة بين آيات أحسن القصص- كأنك ترى مشاهد محاولة إغواء “يوسف” وحديث النسوة عنها وإدخاله السجن ظُلمًا رأي العين، وهو الكفيف!! أربعون دقيقة من الإبداع والإتقان والخشوع تنبيء عن قاريء من العيار الثقيل، ولو امتد به العمر قليلاً لحقق كثيرًا من السمو والمجد الحقيقيين، ولكنها إرادة الله تعالى.
وكما أصبح من الأسماء المعدودة في عالم تلاوة القرآن الكريم ترتيلًا وتجويدًا في زمانه.. أبدع “النادي” أيضًا في إنشاد القصة النبوية والقصائد الدينية، وكذلك غناء الأدوار والموشحات. أبدع “النادي” في إنشاده قصيدة: “قلبي سواك ما عبد” التي تقول بعض كلماتها: قلبي سواك ما عبد/ وجهي لنورك سجد/ أنت الإله الأحد”، وقصائد وموشحات أخرى عديدة، وفيها تلمس دليلًا دامغًا على عبقريته الفنية المتفردة. قراء قليلون جدًا أحكموا قبضتهم على “التلاوة” و”الابتهال”، دون أن تطغى شخصية القاريء على المبتهل أو العكس، وصاحب الذكرى في صدارة هؤلاء دون أدنى شك.
يقول أمين فهمي في كتابه: “شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد”: “إن الشيخ زكريا أحمد أخذ على عاتقه الاهتمام بـ”النادي”، واستمر في تعهده له برعايته والإرشاد وانتهاز كل فرصة للشهادة بموهبته وعبقريته واقتداره، إلى أن أصبح الأخير -بشهادة كبار الملحنين والموسيقيين- هو الأول -بلا منازع- بين ذوي الأصوات المعدودين في البلاد، وأصبح له جمهور كبير من المعجبين به سواء في تلاوة القرآن الكريم وإنشاد القصة النبوية والقصائد الدينية أو في غناء الأدوار والموشحات ، مضيفًا: “كم كان سرور الشيخ زكريا عظيمًا وهو يتتبع تقدم تلميذه النابغة، ويرى الإقبال الشديد على سماعه يزداد يومًا بعد يوم”.
وأخيرًا.. فإن القاريء الشيخ محمد حسن النادي يستحق حضورًا أعظم على خريطة الإذاعة المصرية بمحطاتها المختلفة؛ لا سيما إذاعة القرآن الكريم التي لم تعد تعرف للقراء العظام مكانتهم المستحقة؛ لأسباب لم تعد تخفى على أحد، كما يستحق أيضًا أن تطلق وزارة الأوقاف اسمه على إحدى مسابقاتها المتعددة، وأن يُخلد الأزهر الشريف اسمه بإطلاقه على أيٍّ من أروقته وقاعاته وما أكثرها..رحم الله صاحب الذكرى، وتقبله عنده بقبول حسن، وأحسن مأواه.

زر الذهاب إلى الأعلى