حازم البهواشي يكتب: صياد لآلئ الجماعة الشعبية

مرَّتْ علينا في هذه الأيام الذكرى التاسعة عشرة لوفاةِ الدكتور “محمد رجب النجار” (12 أغسطس 1941م _ 12 فبراير 2005م) أستاذ الأدب الشعبي والفلولكلور، أو كما أَطْلَقَ عليه الشاعر “مسعود شومان” (صياد لآلئ الجماعة الشعبية)، وذلك حين احتفتْ جريدةُ الأهرام بذكراه في صفحة كاملة بعددها الصادر بتاريخ ١٣ فبراير ٢٠١٦م.
لعلني لم أقترب من (النجار) في قاعة الدرس، إذ اجتذبَتْه جامعةُ الكويت حتى قبل أن أُولَد، باستثناء فترة غزو العراق للكويت (٢ أغسطس ١٩٩٠م _ ٢٨ فبراير ١٩٩١م) التي قام فيها بالتدريس في مصر بآداب بني سويف وأكاديمية الفنون. لكني اقتربتُ منه إنسانيًّا بصورةٍ كبيرة بحُكم صلة القرابة التي كانت تجعلني أُلازِمُه كثيرًا في منزلِه إبَّان وجوده بالقاهرة وكوني بها. وقد كنتُ أحب أن أجالسه، وكان يحب أن يجالسني، كما كنتُ آخرَ من رآه قبل أن يُوارَى الثرى _ رحمة الله عليه _. وأستطيع أن أقول إن العنوانَ الرئيس لحياة (النجار) هو (المثابرة في العمل _ البسمة _ التواضع _ التسامح)، وحَرِيٌّ بمن هذه صفاتُه أن يكون عالِمًا متميزًا وأستاذًا متميزًا.
وُلد النجار بقرية (سنباط _ زفتى _ غربية)، وتخرج في كلية الآداب قسم اللغة العربية جامعة القاهرة عام 1962م، وكان من أوائل دفعته، وقد عمِل في بداية حياته مخرجًا بالتليفزيون المصري، ثم انتقل إلى الكويت عام 1967م، والتحق بجامعتها مُدرسًا مُساعدًا بعد حصوله على درجة الماچستير، ثم الدكتوراه بإشراف أستاذ الأجيال القامة الخُلُقية والعِلمية شيخِ المحققين وعُمدةِ الأدباءِ واللغويين أستاذِ الأساتذة الدكتور/ “حسين نصار” _ رحمه الله _ (25 أكتوبر 1925م _ 29 نوفمبر 2017م ) من كلية الآداب جامعة القاهرة، إلى أن أصبح واحدًا من أبرزِ وأهمِّ أساتذة الأدب الشعبي في الوطن العربي كله.
يمكنك أن تقتربَ من (النجار) وبعضِ صفاته إذا قرأتَ ما يلي:
_ حين كنتُ بالفرقة الأولى بآداب القاهرة، وفي أحد المؤتمرات اكتشفتُ أن تخصصَ أستاذنا الدكتور (خُطَرِي عُرابي) هو الأدبُ الشعبي، وقد كنا نتلمس خطواتِنا الأولى في الحياة الجامعية وكان يُدرس لنا نصوصَ الشعر الجاهلي، فبادرتُه سائلًا: (حضرتك تعرف الدكتور/ محمد رجب النجار؟)، اندهش أستاذي، ناظرًا إليَّ وهو يقول: (إزاي ماعرفوش، دا أستاذنا كلنا، صحيح أنا لم أقابله أبدًا، ولكن لا يعمل أحدٌ في هذا الحقل المعرفي دون أن يطَّلعَ على مؤلَّفاته وإنتاجِه العِلمي، أنت اللي تعرفه منين؟!) فكيف بطالبٍ لم يتعدَّ عمرُه الجامعي شهرين أن يعرِفَ أستاذًا ممن يُشار إليهم بالبنان؟! فأخبرتُه بصلة القرابة، ولما جاء (النجار) في الإجازة الصيفية قصصتُ عليه ما حدث، فكان رده: (سلِّمْ لي عليه كتير، وأعطه رقم تليفوني بالكويت _ التليفون الأرضي، إذ لم يكن هناك محمول _ وقل له ألا يتردد في الاتصال بي إذا أراد شيئًا).
_ أثناء غزو الكويت كان (النجار) في القاهرة، وقد أهمه كثيرًا مصيرُ مكتبتِه ولا شيء آخر، فقرر أن يسافر إلى الكويت _ دون عِلم أفراد الأسرة _ لإنقاذ مكتبتِه والعودةِ بها إلى مصر رغم خطورة الموقف، لكنَّ هذا ما حدث بالفعل، وقد استغرق سفرُه شهرًا كاملًا غابتْ فيه كلُّ أخباره، حتى عاد ومعه الكُتُب التى ملأتْ (كونتينر) بكامله.
_ في مساءِ يومِ عودتِه إلى الكويت من الإجازة، كان يطلب مني أن أصحبَه في السيارة نسير في شوارع القاهرة، وهو فاتحٌ النافذةَ يَشَمُّ هواءَ مصر، وهو يُنشد:
تمتعْ مِن شميمِ عَرارِ نجدٍ // فما بعدَ العشِيَّةِ مِن عَرارِ!!
إنه البيت الذي كان يُودع به مصر، والعَرارُ شجرٌ طيبُ الرائحة.
_ من أقواله الحكيمة، حين سُئل عام 1996م حول حصوله على جائزة الدولة التشجيعية في مصر عن كتاب “التراث القصصي في الأدب العربي”، وهو مقيم في الكويت، إذ حسِبَه البعضُ كويتيًّا، لكنه أعلمَ السائلَ أنه مصري، ثم قال: (ومـع ذلـك، الجائزة لم تــُـعــْـط َ لشخص “محمد رجب النجار”، وإنما أُعطيتْ لكتاب “التراث القصصي في الأدب العربي”، والكتابُ ليس له وطن).
_ من المستقِر فى جميع الأبحاث والدراسات أن مؤلف كتاب “كليلة ودمنة” هو الفيلسوف الهندى “بيدبا”، والمترجم هو “عبد الله بن المقفع” ( 106هـ_ 142هـ) لكنَّ عالمَ الفولكلور الرائد د. “محمد رجب النجار”, رفض الاقتناعَ بذلك وخلَصَ من خلال أبحاثه إلى أن مؤلف كتاب “كليلة ودمنة” هو “عبد الله بن المقفع” نفسُه… و”النجار” بذلك يعيد نِسبةَ الكتاب إلى صاحبه ويؤكد مدى عبقرية القريحة العربية التى طالما اتُّهمت بالجمود. ( كما يقول الكاتب والروائي خيري شلبي ( 1938م _ 2011م ) في مقدمة كتاب النجار “كليلة ودمنة… تأليفًا لا ترجمة”).
_ ينبغي أن تعلم عزيزي القارئ أن كتاب “جحا العربي” للنجار هو الكتاب رقم (10) في سلسلة عالم المعرفة الكويتية العريقة وقد صدر في أكتوبر 1978م، وله أيضًا “حكايات الشطار والعيارين” ـ “النثر العربي القديم من الشفاهية إلى الكتابية” ـ “الأدب الملحمى في التراث الشعبى العربي” – “الشعر الشعبي الساخر في عصر المماليك” – “تحقيق سيرة علي الزيبق” – “توفيق الحكيم والأدب الشعبى أنماط من التناص الفولكلوري”، وغيرها من المؤلفات التي أضافت إلى المكتبة العربية الكثير. وقد قدَّم خِدْماتٍ جليلةً للتراث العربي، منها دراساته عن الفولكلور الكويتي، فهو صاحب أول معجم عربي عن الألغاز الشعبية الكويتية، ثم قدم دراسة فلكلورية أنثربولوجية عنها، وجمع مادة غزيرة عن (الغطاوي الكويتية) _ وتعني الألغاز في لهجتنا _ بجانب كتاباته المتنوعة عن جوانبَ أخرى من التراث الكويتي، حيث جمع بعد وصوله للكويت (500 ساعة تسجيلات لكبار السن هناك) عن (القصص الشعبي)، وقام بتصنيفها وتبويبها ضمن دراسة فولكلورية.
حين أتحدث عن (محمد رجب النجار) لا أمَلُّ ولا يُمكن أن تكون مقالةٌ أكتبها هي حدودُ حديثي، لكني أختم بما قاله شيخُ العربية الأستاذ الدكتور (سعد مصلوح) _ أطال الله عمره ونفع بعلمه ومتعه بالصحة والعافية _ في رثائه:
نَــعَــيـْـتــُكَ لِـلْـوَفَــاءِ أَبـَـا عَــلاءٍ // وَمِـثْـلُـكَ فِـي مَـوَدَّتِـهِ الأمِـيـنُ
وَأَنـتَ الـمَـرْءُ لِـلْـعَـزَمَـاتِ يُـرْجَىٰ // وَمَـن لِـقَـرِيـنـِهِ نِـعْـمَ الـقَـرِيـنُ
ثِــمَــارُ خِــطـَـابِــهِ أَدَبٌ وَعِــلْــمٌ // وَمِــلْءُ إِهَــابــِهِ خُـلُـقٌ وَدِيــنُ.