راندا الهادي تكتب: واحد دكرنس !!

النداء الذي كان يُسعد السمعَ ويشغف القلب، لأنه يُنذر بانتهاء فترة الانتظار الممل لتتحرك السيارة معلنةً بَدءَ الرحلة إلى البيت. طوال أربع سنوات هي سنوات الدراسة الجامعية، وست أخرى حتى تزوجتُ، وكُتِب لي الاستقرار في القاهرة – اسمًا ومعنى – ركبتُ كلَّ أصناف العَجَل – وهو اسمٌ يُطلق على الميكروباصات بالخصوص وكل ما يمشي على الطريق في العموم – من بيچو وميكروباص وسوبرچيت بحُكم أنني مغتربة!
ولثراء هذه التجربة الإنسانية التي عبَرتُها على الطريق بما تحتويه من مطبات وحُفر واختناقات وسيولة، أردتُ مشاركتكم جزءًا ضئيلًا منها في هذا المقال؛ بغرض الفضفضة أو العِبرة أو حتى التسلية، خذها على الوجه الذي يُرضيك، هنا الحريةُ مكفولة ورَدُّ فِعلك لن يؤثر في قناعاتي قيد أنملة.
أنا من خانة المسافرين الصامتين، لا أحب حوارات السفر وحكايات الطريق، أقاتل للجلوس بجوار الشباك فهذا يُقلل عددَ من هم بجواري من البشر، ويُعطيني – إلى حدٍّ ما – مساحتي الخاصة، ورغم حبي للقراءة اللامحدود لم أستطع أبدًا عَقد صُلح بين القراءة والسفر فإما أن أقرأ أو استقل المواصلات، هكذا استقام الحال.
في رحلاتي عرفتُ معنى أن تتذوقَ ما لا يُرضيك نزولًا على رغبة السائق، وأقصد هنا التذوقَ السمعيَّ والبصري، فقد تستمع لأصواتٍ تحمل أسماءً ما أنزل الله بها من سلطان ( لأن السواق كيفُه كِدَه ) أو تشاهد في السوبرچيت فيلمًا بلغ من التفاهة والركاكة حد الاختناق، لتحفظه عن ظهر قلب من كثرة التكرار، ولأنني مخلوقة سمعية بجدارة كان ما يؤرقني أكثر الأغاني الهابطة في أذني خلال السفر.
لنربط الأحزمة، فقد بدأتْ رحلة العَجَل!! من الوقائع التي لا أنساها واقعةُ المُجند، الذي جلس في الجهة المقابلة لكرسِيّ في الأتوبيس، وإذ فجأة تلتقط أنفي رائحةً أقل ما يقال عنها إنها قاتلة، وضعتُ يدي على أنفي تجنبا لأن تُزهق روحي ونظرتُ حولي، لعلي أكتشف من يخبئ الجثة التي نفثت هذه الرائحة في الحافلة، وبعد التفاتاتٍ عديدة أدركتُ أن المصدر هو المجند، الذي خلع حذاءه واستلقى نائمًا غير عابئ بأرواحٍ تجلس بجواره!
ورغم تأفف الجميع من الرائحة لم ينطق أحد، وهنا كان أمامي خياران، بالنسبة لي كلاهما صعب، إما تحمل الرائحة أو إيقاظ هذا المجند وأمرُه بارتداء حذائه وإحراجه أمام الجميع، بالطبع لم أفكر طويلا، الرائحة كانت ستزهق أنفاس الركاب الأبرياء وأنا منهم، فكان الاختيار الأكثر إحراجًا!!
ماذا استفدنا من هذا الموقف؟ دعني أساعدك… الدرس الأول: راحتك النفسية والبدنية تأتي في المقام الأول. الدرس الثاني: ما يناسب غيرَك غالبًا لا يُناسبك، نحن مختلفون. الدرس الثالث: قد تحتمل الكثيرَ، لكنْ لا تراهن مع رائحةِ الأقدام المتعفنة!!