حازم البهواشي يكتب: يُحْكَى أنَّ…

في سالف الأيام يُحكى أن تاجرًا خبَرَ الناسَ من التعامل، وخبره الناسُ أيضًا، إذ كان رحيمًا بهم وبظروفهم. حكى لي من عاصره وتعامل معه، أنه يومًا قال له: (لا تُعطِ هذا الرجلَ بضاعة؛ فإنه يتأخر في السداد)، وكان الرجلُ قد جاءه يطلب كِسوةً له ولصغيريه اللذين جاءا معه، فقال التاجر: (يا أخي إن شالله مايجيبش خالص، ماقدرش أكسر بخاطره والعيال دي معاه)!! ولقد بلغ مِن معرفته بأحوال الناس أنه كان يُعطي لهم صُرَّةَ الملابس مِترًا من قماش يعلم أنهم يحتاجون إليه، فليست الصُّرَّةُ واحدةً للجميع، كلٌّ حسْبَ حالِه. لقد عرَفَ الناسَ أحوالًا وأخلاقًا، فكان إذا قال عن فلان إنه صاحبُ خُلق، صدَّقه السائلُ دون نقاش؛ إذ لا يُنبئك بأخلاق الناس مثلُ التعامل، خاصةً التعاملَ في الماديات، إذ توزن الأخلاقُ بالتعاملات لا بالصلوات أو التمتمات أو ما يَظهرُ من ملابسَ ومسوحات أو ما يُركب من سيارات!!
ورد في الأثر أن رجلًا أثنى على رجلٍ عند عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ فقال عمر: صحِبتَه في سفر؟ قال الرجل: لا، قال عمر: فأتمنتَه على شيء؟ قال: لا، قال عمر: ويحك! لعلك رأيتَه يَخفِضُ ويَرفعُ في المسجد!!
وفي روايةٍ أخرى، قال رجلٌ لعمر بن الخطاب: إنّ فلانًا رجلُ صدق، قال: سافرتَ معه؟ قال: لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال: لا، قال: فهل ائتمنتَه على شيء؟ قال لا، قال: فأنت الذي لا عِلمَ لك به، أراك رأيتَه يَرفع رأسَه ويَخفِضُه في المسجد!! وتأتي روايةٌ ثالثةٌ تقول: إن رجلًا شهِد لرجلٍ وزكاه عِنْدَ عُمرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فقَالَ عُمر: هَلْ أَنْتَ جَارُهُ الْأَدْنَى تَعْرِفُ مَسَاءَهُ وَصَبَاحَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ عَامَلْتَهُ فِي الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ اللَّذِينَ تُمْتَحَنُ بِهِمَا أَمَانَاتُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلْ رَافَقْتَهُ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْكَشِفُ فِيهِ أَخْلَاقُ النَّاسِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَسْتَ تعرفه، ورُوي أنه قال: لعلك رأيتَه يركعُ ركعاتٍ في المسجد!!
خلاصة القول: لا تغرنك المظاهرُ أيًّا كانت فليست المظاهرُ ذاتَ قيمة، وما الأخلاق إلا تصرفات، وما الأقوال بشيءٍ يُعوَّل عليه.
قالت لي سيدةٌ عن هذا التاجر إنها يومًا ما سمعتْ من رجلٍ _ وكانت القريةُ بلا كهرباء في ذلك الحين _ أنه رأى في ظلامِ يومٍ شتويٍّ باردٍ مُمطر، رجلًا يَحمل حِملًا كبيرًا ويمشي به، فظن أنه لص، وتتبَّعه حتى يعلمَ وِجهتَه وسَرِقَتَه، لكنه فُوجئ به يتوقفُ عند باب بيتٍ ويطرُق، فقال صاحبُ البيت: مَن؟ رد التاجر: فلان، فهرول صاحبُ البيت ليفتحَ له، فإذا ما يَحمِلُه هو (لِحاف) يقيهم البرد، وإذا بأهل البيت يلهج لسانُهم بالدعاء له، إذ كانوا حقًّا في حاجةٍ إلى اللِحاف!! ويُحكى أن شخصًا أراد أن يبيعَ بيتَه، فعرضه على هذا التاجر، الذي قال: (لستُ في حاجةٍ إليه، اعرضه على جاري، فالحمد لله بيتي واسع، لكنّ جاري وأخاه يحتاجون إليه)، ردَّ الرجل: (نعم، لقد عرضتُه عليه، وأخبرني أنه بحاجةٍ إليه، إلا أنه لا يملك المالَ الكافي لشرائه)، فما كان من التاجر إلا أن قال: (أعطهِ البيتَ، وخذ ثمنَه مني)، وهو ما حدث بالفعل!! هذا التاجر كان يُخصص ( 500 ) جنيه للتجارة مع الله، (يُعادل هذا المبلغ الآن ثمنَ شراء فدانين من الأرض الزراعية)!!
تلك قصصٌ واقعية ونوادرُ حدثتْ في العصر الحديث، وليست من زمن الصحابة، لنعلمَ أن الخيرَ في الكونِ باقٍ!!