مختار محمود يكتب: المتكلفون!!
ابتداءً..فإنَّ الفعل “تكلَّف” –كما ورد بالمعاجم اللغوية- يعني: تعرُّضَ الشخص لما لا يعنيه، وتجشُّمَ الأمر على مشقَّة، وحملَ الشخص نفسَه على ما ليس من عادته، وإرغامها على ما لا تستطيع إليه سبيلاً.
والمتكلفون قومٌّ يدَّعون الموهبة في مجال من المجالات، ويتوهمون أنهم أعظم شأنًا من غيرهم من الموهوبين الحقيقيين، ويزاحمونهم ويسطون على فرصهم وحقوقهم.
والمتكلف شخص مغرور مكابر يعيش غالبًا في برج عاجي. أمَّا الموهوب الحقيقي فلا يغتر ولا يكابر غالبًا، وقد يدفعه تكالب الآخرين وتكلفهم إلى الانسحاب.
وفي القرآن الكريم..قال عز وجل على لسان الرسول المكرم: “قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ”.
وفي الواقع المعيشي..قد تجد طبيبًا نابهًا في قمة التواضع والبساطة ولا يبالغ في أجره. أمَّا الطبيب الضعيف فيبالغ في عنجهيته وكبره ومكابرته وأجره.
يبدو التكلف واضحًا في مجالات عديدة لا تضع ضوابط صارمة لارتيادها ولا شروطًا قاسية للخوض في غمارها مثل: الكتابة بصنوفها والشعر والإعلام والخطابة وغيرها..ودع القوس مفتوحًا.
والمتكلفون إذا اقتحموا مجالاً أفسدوه وجعلوا أعزة أهله أذلة، وكذلك يفعلون؛ حيث تضيع المعايير، وتموت العدالة، وتسقط الموهبة، وتصبح الكلمة يومئذ لصاحب النفوذ ومَن يملك المال.
لماذا تتكلفُ الشِّعرَ ولستَ بشاعر؟ سؤالٌ بليغ وجَّهه ناقد كبير لباحث سياسي تقمص دور الروائي وتجسد شخصية الشاعر بعد ثورة 30 يونيو، وراح يطبع الرواية وراء الرواية، والديوان بعد الديوان، وهو لم يقبض بعد ولن يقبض على أدوات الروائي، ولا مقومات الشاعر!
والأغرب من ذلك كله، وربما كان الدافعُ الرئيسُ وراء غضبة الناقد وتساؤله الثوري، وتضامنُ متابعيه معه هو أن هذا “المتشاعر” يستغل علاقاته بمسؤولي الصفحات الثقافية بالصحف السيارة والبوابات الصحفية محليًا وعربيًا؛ من أجل أن يكتبوا عنه، ويمتدحوا أعماله، ويستنطقوها بما ليس فيها، وكأنه أمير الشعراء أو شاعر النيل أو صاحب مدرسة شعرية جديدة، كما حدث في ديوانه الأخير، على طريقة فيلم “مرجان أحمد مرجان”..”وأهو كله بيسترزق وياكل عيش..وعندي النهاردة وعندك بكرة”!
وهذه الحالة –كما ذكرتُ آنفًا- لا تمثل استثناءً، بل إنها تحولت تدريجيًا في السنوات الأخيرة إلى ما يمكن تصنيفه بـ”الظاهرة”، وهي ظاهرة متوحشة موغلة في الشراسة، لا يمكن إنكارها ولا التماهي والتعايش معها.
بعيدًا عن الأعراض النفسية التي يتركها “التكلُّف” على صاحبه، حيث يغدو تدريجيًا شخصَا متورمًا وإنسانًا سرطانيًا، يتوهم عبقرية لا يمتلكها، فإنه يتحول –تلقائيًا- إلى عبء ثقيل على المجتمع من حوله، وشخصية عدوانية وكريهة، ويصبح التخلص منه حينئذ أمرًا صعب المنال.
وكما يتكلف بعضُهم الشعر، فإنَّ هناك من يتكلف كتابة المقال أو الرواية أو القصة، وهو لا يملك من مقوماتهم شيئًا مذكورًا، ولكنه يستطيع من خلال منصبه أو نفوذه أو علاقاته المتشعبة أن يطبع أعماله على نفقة الدولة، أو أن يقتنص جائزة حكومية لا يستحقها، وهو أمر كثير التكرار في مصر.. على غرار “مرجان أحمد مرجان” أيضًا!
وشهد الإعلام المصري في العقد الأخير سيولة غير عادية وانفلاتًا غير مسبوق، نجم عنهما اقتحام أشخاص غير مؤهلين العمل الإذاعي أو التليفزيوني، سواء بمالهم أو بصلاتهم واتصالاتهم، وهو ما أبعدَ مصر عن ريادة إعلامية سيطرت عليها سنين عددًا، ومنحها لغيرها ممن ينحازون للموهبة على ما سواها، وكان سببًا في التمكين لحالة من الفوضى الممجوجة!
تعددت المجالات التي خاضها المتكلفون بسيف الحياة تارة، أو ببرود دم تارة ثانية، أو استغلالاً للمنصب والنفوذ تارة ثالثة، كما يفعل وزير الأوقاف الذي قفز على المنابر منذ استوزاره قبل عشر سنوات، ولا يريد أن يبرحها، رغم أن البشر والحجر والشجر والحطابين في البيداء استغاثوا بالسماء منه.. وهكذا هم المتكلفون، وهكذا يفعلون، بل إن العزة بالإثم قد تأخذهم إلى آفاق بعيدة، فيظنون مخطئين أن الناس تنقم منهم وتحقد عليهم وتحسدهم، وسبحان مَن قال في كتابه الكريم: “أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ”.