مختار محمود يكتب: مولانا هانس كونج!
![](https://misralan.net/wp-content/uploads/2023/06/مختار-محمود-1-1.jpg)
يُعتبر العالم والمفكر السويسري «هانس كونج»، الذي عاش بين عامي 1928-2021- أحدَ رواد البحثِ عن الحقيقة، حيث ظلَّ، خلالَ عمره المديد، الذى دام 93 عامًا، ينشدُ الحقَّ أينما كان، عن علمٍ وبصيرةٍ، وليس عن تقليدٍ ومُحاكاةٍ، ليصبحَ نموذجًا حقيقيًا وعمليًا فى تجديد الخطاب الدينى، وإخراجه من دائرة الجمود والنمطية الكريهة إلى آفاق أرحبَ من العقلانية والواقعية، ولا شكَّ فى أنَّ إيمان العقل والاقتناع أفضلُ ألفَ مرةٍ من الإيمان الموروث، لا يستويان مثلاً.
بعدَ دراساتٍ مُضنيةٍ ومقارناتٍ دقيقةٍ فى العقائد، مُتسلحًا بأدواتٍ علميةٍ رصينةٍ وذكاءٍ معهودٍ، تحول «هانس كونج» إلى واحدٍ من أكابر المدافعين عن الدين الخاتم فى الغرب،على غرار: «روجيه جارودى» و«أنتونى فلو».
بعدَ الدراسات العلمية المُستفيضة والبحوث التى أعدَّها، والمقارنات التى فرَّق خلالها بين «حقٍّ جلىٍّ» وبين «باطلٍ خفىٍّ».. توصَّل «هانس كونج» إلى أنَّ الإسلامَ هو دينٌ سماوى حقيقى، وأنَّ محمدًا رسولُ الله قد تلقى وحى الله، وبلَّغه كما أمرَه اللهُ تعالى، وأنَّ القرآن الكريمَ يحوي بين سوره وآياته وكلماته وحروفه منهجًا أخلاقيًا رفيعًا، يرتقى بالإنسان ويُعظِّم من دوره فى الحياة.
أزعجَ «هانس كونج» الغربَ وكثيرًا من المتطرفين هناك، وفى الدول المسلمة أيضًا، بتأكيده أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم هو رسولٌ حقيقى بمعنى الكلمة، وأنَّ القولَ بغير ذلك زعمٌ كاذبٌ، ووهمٌ باطلٌ، يفتقرُ إلى البرهان والدليل.
استطاع «هانس كونج»، بخطابٍ شديد التهذيب والوقار والواقعية والمنطقية، الدفاعَ عن الإسلام ومواجهة الأفكار المُناوئة له، وأعلنها صريحة واضحة، أمامَ المعسكر الغربى الكارهِ بالفطرة للإسلام، أنه لم يعد يُمكنه أن يستمرَّ بعد ذلك فى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسولُ الله تلقَّى وحي السماء، وهو رسولٌ حقيقي بكل معاني الكلمة، وأنه مٌعلمٌ ومرشدٌ للإنسانية، لا جدالَ فى ذلك ولا ريبَ، وأنَّ أيَّ تجديفٍ ضدَّ هذه الحقيقة أشبهُ بمن يريدُ إطفاء الشمس فى يومٍ قائظٍ شديدٍ الحرارة..على حد وصفه!
استطاع «هانس كونج» أن يُقيم الحججَ الدامغة والبراهينَ الساطعة التى لا يتطرقُ إليها أدنى شكِ على تفنيد حُجج خصومه الواهية عن دين الإسلام ونبي الإسلام، بل إنه – حبًّا فى الإسلام واستمساكًا بمبادئه- دعا خصومه الساخطين عليه إلى محاولةِ فهمَ الإسلام، وأن يراعوا ضمائرَهم، ويؤدوا واجبهم، ولو لمرة واحدة، فى حياتهم تجاهَ هذه الديانة العالمية التى طال تجاهلُها واستعداؤها عن جهل وغباء، على حد قوله.
آمنَ «هانس كونج» بأنَّه من الخطأ الجسيم نبذُ الإسلام؛ على أساس أنه دينُ النار والسيف، كما يُروِّج بعضُ أصحاب العقول الصغيرة والضئيلة فى بلاد الإسلام ومن المُنتسبين إليه، بدون أن نعرفَ مادته الدينية، مشددًا على أنَّ العَربَ، من خلال النبى محمد صلى الله عليه وسلم، ارتقوَا إلى مرتبةٍ عاليةٍ من الأخلاق، والدينُ مبنى على الإيمان بإلهٍ واحدٍ وأخلاقياتٍ إنسانيةٍ أساسيةٍ.
وعلى ذكر الأخلاق.. كان «كونج» يرى أنَّ الغربَ يعانى من فراغ فى: المعنى والقيم والقواعد الأخلاقية، وأنَّ المشكلة تتعدى الأفراد إلى كونها مشكلة سياسية على أعلى مستوى، مُنتقدًا مكتسبات الحداثة الغربية.
الغربُ- كما كان «كونج» يقول ويكتب ويردد- اهتمَّ بالعِلم وأهملَ الحكمة التى تمنعُ تجاوزاتِ البحث العلمى، واهتمَّ بالتكنولوجيا وأهملَ الطاقة الروحية التى تسمحُ بمراقبة الأخطار الناجمة عن التكنولوجيا المتطورة، واهتمَّ بالصناعة وأهملَ علم البيئة الذى يتصدى للتوسع الاقتصادى على حساب البيئة، واهتمَّ بالديمقراطية، وأهملَ الأخلاق التى تتصدى لمصالح القوى الكثيفة للأفراد والفئات الحاكمة، ومن ثمَّ فإنَّ مستقبل الإنسانية الأفضل مرتبطٌ بالخضوع للأخلاق التى يحثُّ عليها الإسلامُ قرآنًا وسُنة نبوية مطهرة، حتى لا يتحول الإنسان إلى وسيلة، فالإنسان هو الهدف النهائى، وهو الغاية والمقياس.
كان «كونج» يرى أنَّ مشاريع الأخلاق العالمية يجب أن تكون فى شكل منظومة متكاملة تجمع: العدالة والحرية والمساواة والتعايش والتعددية والسلام والحرية، وهي المفاهيم التى نلمسها فى أول صرخة محمدية: «إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»، وكذلك إرشاده المستمر: «أقربُكم منى مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا»، فضلاً عن تعاملاته وسلوكياته مع صحابته الأكارم، وخصومه وأعدائه، خلال فترة بعثته التى دامت 23 عامًا بالتمام والكمال.
فى واحدٍ من أهم كتبه وهو: «الإسلام رمز الأمل»، شدد «هانس كونج» على أنَ محور كتابه هو: «لن يكون هناك سلامٌ بين الأمم من دون السلام بين الأديان، ولن يكونَ هناك سلامٌ بين الأديان من دون حوار بين الأديان»، مؤكدًا أنَّ الإسلام هو رمزُ الأمل بأخلاقه وقيمِه الدينية، على النقيض تمامًا من الصورة العدائية السوداوية المنتشرة عنه فى الغرب، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التى أسهمتْ- دون شك- فى إثارة موجات الغبار حول الإسلام. وهذا الكتابُ ينتمى إلى سلسلةٍ ممتدةٍ ولامعةٍ وناصعةٍ من الكتب المُهمة والمؤثرة والمُضيئة فى مسيرة الرجل مثل: «الإسلامُ.. ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً» وغيره من الكتب الكاشفة عن عقلانية ومنهجية هذا الرجل الذى ناصرَ الإسلامَ عن علمٍ ويقينٍ.
إنَّ النظر بعين الاعتبار لتجربة «هانس كونج» و«أنتونى فلو»، وغيرهما من أكابر الغرب الذين ناصروا الإسلامَ ودافعوا عنه بقوة العقل وسلاح العلم، من جانب المؤسسات الدينية، وإدخالها معاملَ الدراسة والفكر والتجريب، خطوة لا بدَّ منها، إنْ كنا باحثين حقًا عن مفهوم مبتكر وواقعى ومقنع لتجديد الخطاب الدينى؛ لا سيما بعدما أثبتت الأيام والسنون الخوالىالرقص مع الحياة – مهدى الموسوى أنَّ من صنعوا الأزمة لن يكونوا قادرين على حلها، وأننا لا نزالُ ندور حولَ أنفسنا فى صناعة هذا التجديد المرغوب، ليس باعتباره مطلبًا رسميًا أو سياديًا، ولكن لكونه مطلبًا إنسانيًا وشرعيًا وشعبيًا ضاغطًا لا غنى عنه، فى ظل اختلاط المفاهيم، وسوء الفهم والنوايا.. والقصد أحيانًا، واللهُ غالبٌ على أمره، ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون.
إن الخدمات التي قدمها “هانس كونج” للإسلام تفوق في جوهرها ما يقدمه بعض علماء المسلمين واللحى والموالي من أهل النقل والحفظ وحب الشهرة..غفر الله لمولانا “هانس كونج” ورحمه رحمة واسعة وأنزله منازل الصالحين.