أميل أمين يكتب: النظام العالمي بحسب ثعلب السياسة الأمريكية
مع عامه المائة،لا يزال هنري كيسنجر يتحدث ويدهشنا، وهو قادر بالفعل على الدهش بمعناه الصوفي الواسع، فالرجل طُلعة، كما يقال في أدبيات اللغة العربية، ولديه من الخبرة الأكاديمية والواقعية ما يرشحه لأن يضحي، المنظر السياسي الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة الأمريكية.
في كتابه العمدة :” النظام العالمي ..تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ “، يتناول كيسنجر جملة من الأنظمة التى سادت العالم منذ نشأتها حتى العصر الحاضر، يبتدي بالنظام الأوربي الذي أجترح في مؤتمر ويتسفاليا بعد حرب السنوات الثلاثين، ثم يعود إلي الوراء ليتحدث عن النظام الإسلامي وتمدده، وأكفائه، كما عن الأنظمة الهندية والصينية واليابانية، وما أطلعت به من أدوار وصولا إلي العصر الحديث والاضطرابات السائدة فيه، مسلطا الضوء على رؤية الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمي.
يطرح كيسنجر في مقدمة كتابه الفخم الذي يقع في نحو أربعمائة صفحة من القطع الكبير علامة استفهام مثيرة للغاية :” هل نحن في مواجهة فترة تتولي فيها قوي عصيبة على قيود أي نظام تحديد لمصير المستقبل”؟
يري كيسنجر أن عصرنا قلق ملئ بالإضطرابات، وزاخر بما يقرب اليأس أحيانا من السعي لامتلاك تصور لنظام عالمي. تبدو الفوضي مهددة جنبا إلي جنب مع تبادل غير مسبوق للتبعية والاعتماد في ظل انتشار أسلحة الدمار الشامل، تفكك الدول، تأثير عمليات السطو على البيئة، تمادي ممارسات إبادة الجنس، وانتشار تكنولوجيات جديدة تهدد بدفع الصراع إلي ما بعد تحكم البشر وإدراكهم.
ثمة مناهج جديدة لامتلاك المعلومات وإيصالها توحد أقاليم كما لو سبق لها أن حصل، وتنبئ بأحداث كونية، وإن بطريقة تحول دون التأمل، مطالبة القادة بالمسارعة إلي تسجيل ردود أفعال آنية على شكل شعارات قابلة للتفسير.
يطرح كيسنجر علامة استفهام أخرى هامة وجذرية تتصل بالتقابل بين النظام والحرية، وعنده أن النظام “أي العالمي” بلا حرية، وإن دام جراء حماسة عابرة، لا يلبث أن يتمخض عن نقيضه، ومع ذلك فإن من غير الممكن ضمان الحرية أو تدعيمها في غياب إطار نظامي حافظ للسلم.
هنا يوصي “ثعلب السياسة الأمريكية، بحتمية فهم النظام والحرية، اللذين يتم أحيانا أعتبارهما طرفي نقيض في طيف التجارب على أنهما عنصران مستقلان، وهذا ينشئ تساؤل رئيس: هل يستطيع قادة اليوم أن يرتقوا إلي ما فوق تسارع الأحداث اليومية وصولاً إلي مثل هذا التوازن؟
الثابت أن أي جواب على هذه الأسئلة يجب أن يتعامل مع ثلاث مستويات من النظام. ثمة نظام عالمي يصف المفهوم الموجود لدي منطقة أو حضارة بشأن طبيعة جملة الترتيبات العادلة وأنماط توزيع السلطة التى يظن أنها قابلة للتطبيق على العالم كله. فالنظام الدولي هو التطبيق العملي لهذه المفاهيم على جزء ذي شأن من كوكب الأرض ـ جزء ذي حجم يكفي لجعله مؤثرا في ميزان القوة العالمي، أما الأنظمة الإقليمية فهي المنطوية على المبادئ ذاتها المطبقة على بقع جغرافية محددة.
يقر كيسنجر بأنه ما من كتاب يستطيع أن يحلم بتناول جميع المقاربات التاريخية لمفهوم النظام الدولي، أو جميع البلدان الفاعلة الآن، في تشكيل شئون العالم. وفي كل الأحوال فإن هذا الكتاب يحاول تناول الأقاليم التى كان لمفاهيمها الباع الأطول في صوغ نمط تطور الحقبة الحديثة.
يتساءل كيسنجر إلي أين نحن ذاهبون من هنا؟ والجواب أن اجتراح نوع من إعادة البناء لنظام دولي هو التحدي الأقصى لفن السياسة في زماننا.
فمعقولية الإخفاق لن تكون حربا كبري بين دول وأن لم يكن مستبعدا في بعض المناطق، بمقدار ما ستمثل نوعا من التطور إلي مناطق نفوذ متناهية مع بني وصيغ حكم داخلية خاصة.