محمد أمين المصري يكتب: “الإخوان” يتصدرون المشهد “الخفي” بالسودان !
يعيش العرب عصرا صعبا ويسابقون الزمن للعودة للخلف، بينما يسير الآخرون للأمام بقوة وسرعة، شاهد العالم على الهواء مباشرة احتفال تتويج الملك تشارلز الثالث في حفل مهيب ورائع عكس قمة الاحترام للتاريخ والديمقراطية والأصول المرعية من مئات السنين، انتظر الأمير تشارلز كثيرا الدور ليتم تتويجه ملكا خلفا لأمه الراحلة التي قبعت في مكانها دون أن يتألم ولي العهد وريث العرش أو يدبر المكائد للملكة ليطيح بها من عرشه، انتظر تشارلز متحملا عبء الزمن وضعف عوده وزيادة انحنائه وكبره في السن، ولكن لكل مبتغى نهاية، والعبرة بالخواتيم وجاءت الخاتمة سعيدة ليقف وزوجته الملك في شرفة القصر الملكي ويحيي الجماهير المحتشدة لرؤية الملك الجديد.
لن نضيف جديدا بالحديث عن حفل تتويج تشارلز، ولكن الجديد في حالنا نحن العرب، والعالم الذي استمتع بحفل التتويج لساعات دون أدنى ملل في المشاهدة والمتابعة، هو نفسه العالم الذي يتابع تطورات السودان واحتراب جناحيه العسكريين، الجيش الوطني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس المجلس السيادي، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ” حميدتي”.
وبغض النظر عن كون قوات حميدتي شرعية أم ميليشيات مثلما أطلق عليها الفريق عبد الفتاح البرهان ، فالأمر لا يخرج عن كونه صراعا على السلطة بين فريقين اتحدا ضد الرئيس السابق عمر البشير القابع في مستشفي عسكري، ولكن بعد الاتحاد والاتفاق علي مناكفة المكون المدني الشريك في الاتفاق الإطاري. الجيش يصارع على مصلحة البلاد واستقرارها مهما كانت أسباب تعطيله أحيانا استمرار الحكومة المدنية، ولكن ميليشيات حميدتي فلها أسبابها الخاص بالصراع من أهمها الحفاظ على مكاسب سلطوية ومادية ومعنوية. اختلفت وجهات النظر بين الجيش وميليشيا الدعم السريع، فالجيش يصر على انصهار قوات حميدتي في الجيش دون النظر في التراتبية العسكرية بين البرهان وحميدتي، في حين أن الأخير يصر على تسليم السلطة للمدنيين وعودة الجيش للثكنات العسكرية، وهو حق يراد به باطل.
تفاقمت التوترات وسط الطرفين العسكريين بعد توقيع الاتفاق الإطاري مع قوى سياسية مدنية، وذلك بسبب خلاف حول إصلاح المؤسسة العسكرية والوصول إلى جيش مهني موحد، ومسألة دمج الدعم السريع في القوات المسلحة، إذ رهن قائد الجيش الفريق البرهان الاستمرار في العملية السياسية بحسم عملية الدمج. في حين أصر حميدتي على تخلي الجيش أولا عن السلطة وتسليمها للمدنيين.
ما أعلنه حميدتي هو حق يراد به باطل، لأن قائد الدعم السريع سبق وتولي المجلس الاقتصادي بعد توقيع الاتفاق الإطاري في حين كان نائب رئيس المجلس هو عبد الله حمدوك رئيس الحكومة الخبير الاقتصادي في منظمات دولية والبنك الدولي. يعني قائد ميليشيا يتولي صنع السياسات الاقتصادية في البلاد وتهميش خبرات وإمكانيات خبير وطني عالمي، ولكن هذا ما تم الاتفاق عليه وهو ما تم بالفعل. ثم أن قوات الدعم السريع تتولي حماية مناجم الذهب وتصدير الخام وتتلقي السبائك المصنعة.
الأمر بعد ذلك معروف للجميع، استيقظت الخرطوم علي دوي مدافع وطلقات وذخائر وقصف هنا وهناك لتنتهي أشهر من التوتر السياسي والعسكري بين الطرفين، لتكتب قصة جديدة في تطورات هذا الصراع، وسط مخاوف محلية وإقليمية ودولية من انزلاق السودان الى مربع الفوضى. وتؤجج تلك المخاوف وقائع على الأرض أهمها عدم قدرة فصيل من طرفي الصراع حسم الموقف لصالحه لأسباب عسكرية واجتماعية واقتصادية، حتى وإن كان الجيش يملك سلاح الطيران الكفيل بحسم الصراع من طرف واحد، ولكن يبدو أن القضية سياسية أكثر منها عسكرية أيضا.
الأهم من الصراع العسكري بين جناحا السلطة في السودان، فالمشهد المؤسف هو نجاح جماعة البشير والمؤتمر الوطني المنحل التابع للإخوان المسلمين في إحداث الوقيعة وإشعال الموقف بين الجيش والميليشيات. فالإخوان نسجوا الفتنة ببراعة ليست للوقيعة بين الطرفين العسكريين ولكن انتقاما من الجميع، انتقاما من السودان نفسه الذي تمرد شعبه علي حكمهم القمعي الفاشل الذي استمر ٣٠ عاما من الظلام والظلم والقمع والإنانية.
في مصر أطلقنا سابقا على فلول أحداث 25 يناير 2011 “الثورة المضادة”، وفي السودان تبنى بقايا النظام الإخواني مهمة تأجيج الفتنة وإشعالها بين العسكريين وتحويلها الى حرب مدمرة ليس لها نهاية في الأفق حتى الآن رغم تعدد جهات الوساطة لإنهاء الحرب التي ستدمر بلدا مدمرا ليس أمامه بارقة أمل في العيش بسلام.
ومن بين دلالات تورط اليد الإخوانية في المشهد الدامي الحالي بالسودان ما نقلته مواقع إخبارية سودانية عن الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية علي كرتي بقوله: “لن ننتظر طويلا بعد الآن” في إشارة ضمنية إلى اتجاهه نحو العنف، وتبع ذلك تهديدات مماثلة من عناصر الإخوان خلال ولائم إفطار رمضانية في الخرطوم، هذا من بين شواهد تورط الجماعات الإسلامية في الحرب الدامية الدائرة بين الجيش والميليشيات. فالإخوان بارعون في استغلال الفرص لمصلحتهم ونجحوا في الوقيعة بين الطرفين المتحاربين ليس فقط لإجهاض الاتفاق الإطاري والعملية السياسية التي تؤدي في نهاية الأمر إلى حكومة مدنية، وخروج العسكريين من السلطة وممارسة السياسة، ولكن أيضا في القضاء علي الجيش والدعم السريع، لتعود لهم البلاد بلا حكومة مدنية كما أرادوا واجتهدوا للوصول إليه بالإضافة إلى خلو البلاد من الجيش الذي تقتضي مهمته القضاء على أي تمرد.
ومن شواهد التورط الإخواني في المشهد الحالي بالسودان، هو مصلحتهم في اشتعال حرب تقضي على الجميع مع بقائهم وحدهم في المشهد ليستولوا على السلطة بحكم خبراتهم السابقة في الاستيلاء علي الحكم، فهم وقفوا بالمرصاد أمام أي تقدم نحو التقدم الديمقراطي، ورفعوا رايات العداء الاتفاق الإطاري، وسط حملة تحريض للقوات المسلحة ودعوتها الى الانسحاب من العملية السياسية تحت ذريعة قصورها على مجموعة سياسية محددة. فالحركة الإسلامية نجحت في مسعاها الى جر السودان الى الحرب بغرض الحيلولة دون الوصول إلى اتفاق سياسي نهائي يعيد مسار الانتقال الديمقراطي وتشكيل سلطة مدنية جديدة. وقد نجح الإخوان حقا في تحقيق مبتغاهم وأقحموا البلاد في آتون حرب كسر العظام وإشاعة الفوضى، ليسترجعوا في وقت لاحق بعد الدمار الشامل امتيازاتهم التي فقدوها ويفتقدوها، وضمان عدم محاسبة زعمائهم على الجرائم التي ارتكبوها خلال فترة حكمهم.
ويحمل الإسلاميون ضغائن جمة حيال المكون المدني بالسلطة الانتقالية، حيث سع لإجهاض قرارات الحكومة المدنية لتفكيك بنية نظام الحركة الإسلامية المعزول عبر لجنة حكومية، واستعادة أصول وأموال للخزينة العامة وإبعاد عناصر هذه التنظيم في مؤسسات الدولة، ولكن قائد الجيش أقال الحكومة المدنية فيما عرف بإجراءات (25 أكتوبر 2021) ليستمر أنصار الحركة الإسلامية في مواقع حيوية بالسودان بخلاف خلاياهم النائمة في المؤسسة العسكرية، وهم يحركونها باقتدار وحنكة وخبث في إشعال الفتنة.
ولعل الإسلاميون سعداء بما حققوه حتى الآن، فطالما اجتهدوا للتخلص من محمد حمدان حميدتي، فهو خصمهم اللدود الذي ساهم بشكل أساسي في إبعاد البشير والإخوان عن الحكم، مما جعل الخلايا الإخوانية النائمة تراهن على القضاء عليه.
ومن شواهد تورط الإخوان في الصراع الدامي حاليا، هو تبشير أحد قادتهم بقرب اندلاع الحرب ومخاطبة أنصاره بسرعة مغادرة الخرطوم، مما يؤكد دورهم اللعين في إشعال الفتنة، حيث عمدت الحركة الإسلامية إلى خلق الفوضى في السودان بعد فشل كل مخططاتها في إجهاض عملية الانتقال الديمقراطي وتقويض إرادة الشعب.
هذه البيئة الموجودة في السودان حاليا، هي البيئة المناسبة للحركة الإسلامية للعمل بها من أجل تحقيق مكاسب سياسية جمة واستعادة نفوذها الضائع، فالجماعة الإسلامية تسعى جاهدة من أجل توظيف الظرف الراهن بشكل عملي بحت من أجل العودة للمشهد السياسي وحجز مكان لها في الخارطة السياسية في المستقبل، فمعظم الخبراء السودانيون كتبوا وأكدوا تورط إلى عناصر تنظيم الحركة الإسلامية بالوقوف وراء إشعال فتيل الصراع وتغذيته لخدمة الأهداف ذاتها، فالإخوان أعلنوا منذ بداية الصراع انحيازهم للجيش والفريق عبد الفتاح البرهان متخذين مواقف متشددة حيال ميليشيات الدعم السريع، وهدف الإخوان هنا هو تصدير موقف يدعو إلى الاستقرار في البلاد، هذا بغض النظر عما يتردد في الداخل السوداني بأن هذا الموقف هو نتاج اتفاق بين الطرفين (الإخوان والبرهان) بحيث يدعموه مقابل عودتهم للعمل السياسي وإنهاء الحظر عنهم. ومعروف أن الإخوان أصدروا بيانا أعلنوا فيه انحيازهم للجيش والفريق عبد الفتاح البرهان، ودعا البيان الطرفين المتحاربين إلى إعلاء المصالح الوطنية والحفاظ على وحدة واستقرار السودان فوق أي اعتبار، والمضي قدما من دون إبطاء في إنجاز ما تبقى من استحقاقات المرحلة الانتقالية لتسليم السلطة كاملة للمدنيين، وتأسيس نظام حكم تعددي يشمل كل مكونات الشعب السوداني دون إقصاء، وتوحيد القوات المسلحة تحت قيادة جيش وطني واحد.
ولعل من يقرأ هذا البيان يتضح له على الفور موقف الإخوان من مشهد الصراع الحالي في السودان.
وختاما.. فـ”الإخوان” بالسودان وغيرها ينطبق عليهم قوله تعالي (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، فهم يتصدرون المشهد الخفي.. وهو ما سنوضحه في قراءة لاحقة.